في حوار متلفز مع الصحافيين في صنعاء، أمس، قال الرئيس اليمني بصراحة يُحسد أو يُشكر عليها ما مفاده: »علينا أن نفصل بين الاشتباك الذي تسبّب فيه الاعتداء السعودي علينا في جزيرة الدويمة، وبين ما جرى في المنطقة الوسطى (الجرف) وسائر المناطق اليمنية من حوادث وتعديات ومشاغبات تتحمل مسؤوليتها قوى سياسية محلية حاولت وتحاول استغلال الضائقة الاقتصادية التي تمر بها اليمن، والتي من بين أسبابها انخفاض سعر النفط، عالميا، وتراجع وارداتنا من العملة الصعبة«.
لا يحتاج علي عبد الله صالح إلى شهادة بذكائه الفطري وبخبرته المتميزة في التركيبة العامة لبلاده، بقبائلها وطوائفها ومناطقها المختلفة المناخات والأمزجة… هذه الخبرة المعززة بالمكر التقليدي وبالمهارة في دغدغة العصبية اليمنية تارة، وبالبراعة في المشي على حد السيف في العلاقة مع جارته الغنية والقوية الآن، السعودية، وبحسن استغلال موقعه الجغرافي الحاكم في علاقاته الدولية، مما وفر له حماية أميركية ما، برغم موقفه التحالفي المعروف مع صدام حسين في ما سُمِّي »حرب الخليج الثانية«.
لكن البندقية لا تحل مشاكل الجائعين،
والجيوش لا تستطيع أن تحسم الإحساس العميق بالظلم، أو بالاستبعاد، أو بالغبن وعدم المشاركة في السلطة، وفي الخير العام ناتج البلاد حتى لا نقول في المنافع المباشرة لمواقع النفوذ.
كذلك فإن أسطورة »الحزب الحاكم« الذي يشكله الحاكم من موقعه على رأس السلطة بل السلطات جميعا، والذي يحتشد فيه في العادة كل أنواع الانتهازيين والمنافقين والمرتكبين، ويتخذون منه سُلَّماً الى المنافع والصفقات، أو إلى احتلال المراكز المفاتيح في الدولة الناشئة والتي بالكاد تعرّف شعبها وحكامها إلى معنى »المؤسسات« والى معنى »الهيئات المنتخبة« ناهيك بالإدارة والتخطيط وخطط التنمية الخ.
.. إن أسطورة الحزب الحاكم بل »حزب الحاكم« هذه قد سقطت ولم يعد ممكنا إخفاء فشلها، وانقلابها الى مجرد قناع للتحكم وإحكام السيطرة بالأقل جدارة ومحدودي الكفاءة لأن »الولاء« يتقدم فيها على العلم والخبرة والكفاءة العالية.
ومعروف أن اليمن قد خطت، في ظل نظامها الجمهوري، خطوات واسعة نحو التقدم، لكن الكل يعرف أن الفساد في اليمن وحش أسطوري الحجم، وأنه متغلغل في ثنايا الحياة اليومية، وانه بين الأعمدة الثابتة في مختلف المؤسسات والإدارات، مهما تبدلت الوزارات وأعيد بناؤها بالحجارة ذاتها!
ولقد أثبت اليمنيون مرارا، مدى تعلقهم بوطنهم الذي كان مشطَّراً فتحملوا حتى الحرب من أجل توحيده، وكان وما زال فقيراً فتحملوا الهجرة والاغتراب وبؤس الحياة اليومية، من أجل أن تنهض دولتهم وتكتسب المنعة الكافية والقدرة على أن توفر لهم الخبز مع الكرامة.
ومعروف أيضاً أن الحكم الآن يقف على قدم واحدة، بعدما احتكر السلطة لحزبه الحاكم (الذي لا يمكن له الادعاء انه يمثل أكثرية اليمنيين)..
لقد اعتاد اليمنيون أن يتعايشوا مع أزمة دائمة ومتعذرة الحل في المدى المنظور، مع السعودية،
واعتادوا أن تتفجر هذه الأزمة بين الحين والآخر اشتباكات حدودية ومضايقات قد تشمل طرد اليمنيين العاملين في المملكة، وقد تحرك نعرات جهوية في أكثر من منطقة يمنية، في حضرموت بالذات.
لكن ما يجري في اليمن الآن له أسباب أخرى، داخلية أساسا، ونابعة من الأزمة الاقتصادية التي فاقمتها شروط صندوق النقد الدولي، وهي الشروط التي رفعت الدعم الحكومي عن الخبز والعديد من المواد الغذائية إضافة إلى المحروقات، وتسببت في أن يجوع اليمنيون أكثر فأكثر.
ويعرف الرئيس اليمني أن الحل الفعلي سياسي، بداية، ومن ثم اقتصادي، وهو لا يتم إلا بتغيير جدي في هيكلية السلطة، وفي اتجاه إشراك أوسع قاعدة من القوى السياسية، والإفادة من خبرات الجميع، وخصوصا أن في بعض هذه القوى مجموعات من »الكادرات« المتميزين بعلمهم وبتجاربهم وخبراتهم داخل »الحكم« وخارجه (حتى لا ننسى بعض إيجابيات تجربة الجنوب اليمني).
ان مواجهة الجائعين بالشرطة، ثم بالجيش، لا تنهي الأزمة، بل هي قد تشرّع الباب أمام مخاطر الحرب الأهلية، والعياذ بالله، خصوصا إذا وجد من يغذيها لأسباب سياسية لا تمت بصلة الى مصالح اليمنيين أو الى مطامحهم وحقهم في غد أفضل.
وثمة أكثر من بلد عربي يعيش في ظل حرب أهلية (معلنة حينا وغير معلنة أحيانا) نتيجة تفرد الحاكم أو »حزب الحاكم« بالسلطة ومنافعها، على حساب الكثرة الساحقة من المواطنين الفقراء والذين يزدادون فقراً.
وفي اليمن، تحديداً، لا يخيف السلاح من يشكل السلاح جزءاً من جسده، وليس من لباسه فحسب، ناهيك بأن السلاح لا يطعم جائعاً ولا يسد حاجة معوز.
وحسم الأزمة الداخلية هو الذي يفتح باب الحل حول مسألة الحدود مع السعودية، وفي تجارب اليمن (وبينها تجربة علي عبد الله صالح) ما يشهد بأن التماسك الداخلي أو الوحدة الوطنية هي التي تحمي الشعب في الداخل، كما تحمي الحدود من الخارج.