أي حياة نحيا؟ ماضينا ركام وذكريات صامتة ومؤلمة. حاضرنا، جدران واهية تنهار. الحياة العادية مستسلمة، سنترك مكانها لحياة شقية، يصبح فيها كل شيء خطيراً جداً. لا دفاعات لنا. معرضون من كل الجهات للمذلة والشقاء والفقر واللا جدوى. لقد فقدنا نبوءة الضحك. الابتسامة لا تطيع شفاهنا الشقية. اننا نحلم بنعمة النسيان. النسيان داؤنا ودواؤنا. لبنان يقتر لنا النجاة. يسخو علينا بالمذلة والعذاب وفقدان النجاة.
هل ما نحياه، منذ عامين، جدير بأن نسميه حياة؟ نعيش كأشلاء مبعثرة. نسير في كل الاتجاهات ولا نصل. نيال من تبنَى الصمت سلوكاً كي لا يدفع ثمن الخسران من قلبه. أدمنَا الدموع الجافة. عيوننا لم تعد ترينا إلا ما يراد لنا. الصمت دواء مؤقت. عدم الاكتراث علاج… لبنان ينهار امامنا ونحن مقترون جداً في الجدوى. عواء الكلام لا يجدي. نحن في القعر، وما زلنا نحفر في هذا القعر. نتكلم عن زمن مات. ونتعثر في كتابة نص، ولو كاذب، عن النجاة.
لم ننسَ بعد من نحن؟ هذا الذي يفضحنا من صنع معتقداتنا وأيادينا وحماسنا. لبناننا هذا، منذور للخراب شعوبه تستطيب السكر الطائفي. لا تلتذ إلا بشرب كأس المذهبية. لا تنام الا في فراش غير شرعي. الكلام عندها هو لخنق التفكير، وتسعير التكفير. لم يبق من هذا الماضي ومن ذاك السحيق الا الركام. لبنان راهنا ركام على ركام، وما سيبنى عليه، لن يكون الا إعادة ترميم الركام. لا تنسوا الحكمة المثالية: “لبنان هيك وبس”. من يريد وطنا، عليه أن ييأس. الوطن يبدأ من المواطن. ابحثوا عنه، فلن تجدوه. إن وجدتم مواطنين، فستجدونهم يعيشون فرادى كالأيتام. أحزابهم هدف فارغ. رمال متحركة. خطوات متعثرة. لغات معلوكة. إنهم مواطنون لا تفوت في لحظات التحسر على الماضي القريب. ماضٍ، كان حلم الوطن حقيقياَ. كان الوطن على بعد خطوات. لكنهم أقفلوا الطريق. قطعوا اقدام السائرين. لم يبق من هؤلاء القديسين إلا الحسرة ومرارة البقاء، في بلد على طلاق مع الوطن والمواطن.
لبنان مساحة لممارسة الهتك والفتك والنهب والالتحاق، وكل الطرق الأخرى، باتت عادية، ممسوحة، تركت الحياة، وبات كل شيء خطيراً، والمواطن بلا دفاع. مجرور إلى الكآبة او الاستسلام. كم هو قاس أن نعيش بلا غد.
فلنتورط في الأسئلة، حتى اذا كانت عبثية.
عل من تقع المسؤولية؟ يقتضي الجواب أن نبحث في العمق. نحن “دولة” و”نظام” و”سلطات”. تماماً ككل الدول. ولكننا في الحقيقة لسنا كذلك، لقد تم تدمير للرحم وتعقيمه، لتصير “الدولة” مزرعة، و”النظام” عصابة، والسلطات منصات للسرقة وتحويل الناس إلى باحثين عن اللقمة، من تحت حذاء المنصات.
لقد تم تدمير المجتمع. المجتمع اللبناني مدمر. ما نراه، أنقاض. لا نفعل سوى اننا نساهم بالهدم. والهدم سهل وميسور: الشيعي شيعي سياسياً. لبنان عنده حصة. السني هو سني سياسياً. لبنان عنده حصة. الماروني كذلك الدرزي أيضاً وأيضاً. الآخرون، كلهم يعني كلهم، مساهمون بالهدم… العقائد العلمانية والمدنية والتقدمية تحاول عبثاً. مشكلتها ليست مع السلطة والطغمة، بل، مع من هم مدعسة أقدام أرباب الطوائف، السياسية والدينية. لقد دمرت الطائفية المجتمع. نحن مجتمع مدمر. الدمار أقوى من الاجتماع البشري. لذا، وجب تصحيح الجملة السابقة: هذا التدمير صنع هذا المجتمع المخلَع.
عقابنا، أننا منذ نطفة الولادة، كنا مزورين. لم تكن، لحظة الولادة، نقية. كانت فضيحة. نشرح. الدولة أساس، والنظام فيها يأتي ثانياً، والسلطة ثالثاً. لبنان ولد بالمقلوب. لبنان نظام صيغت له دولة. النظام الطائفي سابق على وجود الدولة. النظام الطائفي يجد بذوره في نظام القائمقاميتين وفي سلطة المتصرفية. ولما حان زمن تقطيع الأراضي القومية، إلى كيانات، أعطيت الطوائف دويلاتها. حصة لبنان، هي طباق للانقسام الطائفي: ماروني، سني، درزي، شيعي الخ… هذا الكيان هو للطوائف، لذلك حكمته على مدار مئة عام، وفشلت كل الصيغ الحديثة الصادقة والنبيلة.. للطائفية عبقرية الاجتياحات. لقد اجتاحت الطوائفيات كل لبنان. لم يبق فيه حجر نستطيع أن تنسد اليه فكرة حديثة جديرة بالنمو والبقاء. لقد بلعت الطائفية الدولة والنظام والسلطة، والأخطر، أنها بلعت المجتمع بكامله بعد تدميره وتفتيته وتذريره.
الطائفية وثن هذه الدولة المعبود. هذا الوثن توظفت عنده الديانات والطوائف والقدرات العلمية والثروات المالية. حتى الأرض لم تعد من تراب وماء وهواء. صارت عقارات مقسَمة.
أشعر أني فارغ من هذا الوطن. ليس عندي كسرة انتماء. الحياة فيه غير موجودة. الموجود الأوحد هو الزمن الزاحف إلى الأمام لاستعادة الخلف. الطائفية حارسة القيادات. نحن نتورط في المستحيل. نهذي هذيانا جميلاً ولكنه يعذّب أرواحنا. كأننا لعنة. كأننا محط العقاب. فقط الطائفي لا يؤذيه الإذلال. إنهم من هذه البيئة. نحن، كأننا من كوكب آخر نحرس المعاني الجميلة، نظن أن للعقل مكانة في ترسيخ الوعي. هذا خرف مجاني. عقلنا عقاب لنا، لأنه ينطق بالمستحيل. الكسل أفضل.
المجتمع المدمر، قضية أولى. علامة مستحيل.
نحن لا نعرف أكثر من ذلك. لم نجرؤ على الاعتراف بالعجز. علينا أن نصمت.
ليتني على خطأ. وليتني أستحق العقاب. ولكني، حتى الآن، لا أصدق أن لبنان سيتغير، ويصبح دولة مدنية ديموقراطية علمانية، تسود فيه المحاسبة والمساءلة. ويعمل القضاء بهداية النص وليس بوحي اللص. لا أصدق المستقبل، ولا أنتمي إلى ماضيه، ولا أطيق حاضره.
ومع ذلك، فإنني أحبك يا وطني المستحيل. والحب، هو السكوت الأسمى والأكثر ارتعاشا. فلنتجرأ على أن نصمت معاً، وان نظل حراس المعاني السامية، كي لا نتهم أنفسنا بالجبن والكسل.
الإستقالة من هذه الدولة واجب. ورفع القبضة دائماً، قضية وجود. نرفض أن نعامل كالسندان بمطرقة الطائفية القاسية. يلزم أن نكون أشراراً، بطريقة فظة، وأن نستمر في ذلك. نحن كائنات جميلة ولا نستحق بشاعة أن يتحول لبنان إلى مرمى نفايات سياسية واجتماعية ودينية.
الآتي على اللبنانيين كارثي… فلنحتفظ بالمستقبل، ولنكره الصمت، ولنقل ما نريده بالقبضات. الشتائم مقدسة، فلا توفروها ابداً.