لا تعود مياه النهر الى الخلف،
ولا تتقدم مياه البحيرة إلى الأمام،
ولا تنجب الذاكرة المثقلة بمشاهد الطفولة وأحلامها واقعاً يلغي الحاضر لكي يستعيد الأمس الذي لم يتبقَ منه إلا الحطام وهياكل شاحبة للأبنية المهجورة.
»الوطن أجمل من الطريق إلى الوطن«، يقول محمود درويش.
لكن يحيى يخلف، العائد مثل محمود، والذي عاد ليبقى مقرراً أن الوطن أجمل يعاني صعوبة الاستحالة في استيلاد الوطن من الذاكرة، او في استرداد الوطن لمجرد انه قد غدا الآن فيه ولم يعد خارجه.
وفي روايته الجديدة »نهر يستحم في البحيرة« يحاول يحيى يخلف تجميع الفلسطيني من بين اصناف شتاته الجسدي والعاطفي والفكري…
في الرواية للفلسطيني اكثر من صورة، فالعائد من ديار الشتات العربية هو غير الذي بقي في أرضه مقهوراً بالجنسية الاسرائيلية، وهذا غير الآتي سائحا داخل »قيمه« الاميركية في أرضه، وهؤلاء جميعاً يختلفون عن ابناء الضفة الذين بقوا فلسطينيين في فلسطين المضيّعة هويتها.
والسلطة ليست الوطن. هي اصغر بكثير من ان تستوعبه او تجسده. وهو اوسع مدى واعظم من ان يطوى او يثنى او يكرمش بحيث يدخل فيها.
والسلطة اعجز من ان تحل مشكلتها مع الناس فكيف بمشكلات المتعددة جنسياتهم برغم وحدة الوطن، او المتعددة ولاءاتهم برغم تسليمهم الاضطراري بسلطة لم تنجح لا في توحيد الأرض ولا في توحيد أهلها ولا في ربط نفسها بالأرض وناسها، وهذا هو الأهم.
يحيى يخلف سجل في روايته الجديدة ما يمكن اعتباره »يوميات عائد«، مقدماً ملامح مجتمع يخضع لاعادة تشكيل، وتختلف توجهات الناس فيه باختلاف ارتباطاتهم… فالمستقوي بجنسيته الاميركية المكتسبة يمكنه »استئجار« الخادم الاسرائيلية المكشوفة الساقين كدليل سياحي، والفلسطينية المتحصنة بالجنسية الاسرائيلية المفروضة تخاف من شبهة الارتباط بالفلسطيني العائد من اجل ان يستعيد جنسيته الاصلية، خصوصا بعدما اكتشفت انه ابقى بعض قلبه في صدر حبيبته التونسية.
ومع ان ملامح »المجتمع الآخر«، »السيد«، والذي اقام نفسه فوق ركام المجتمع الفلسطيني المقتلع، تبدو مهزوزة واولية في رواية يحيى يخلف، الا ان الذعر لا يزال يحكم العلاقات داخله كما علاقاته بالمحيط المعادي، بعد، برغم صلح الاذعان القائم كأمر واقع مع الفلسطيني.
يكفي ان تنطلق حكاية عن خروج التماسيح من بحيرة طبريا، وهجومها على القرى المحيطة بها، حتى يستنفر هذا المجتمع الهجين قواته واجهزته الأمنية جميعا، وتقطع الطرق بالحواجز المسلحة، ويسود الاضطراب وشيء من الذعر، حتى لتكاد تحس بأن قطعانا من التماسيح المصفحة قد اجتاحت الامكنة جميعا والناس جميعا، وان كل شيء، مهدد بأن يعود الى البدايات.
ويبتكر يحيى يخلف كخاتمة لروايته البتراء، حكاية رجلين ميتين بغير موت: اولهما خاله الذي عاد من مخيم اللجوء في عين الحلوة، حيث تبعته وعاشت معه حبيبته اليهودية، وهو قد عاد ممتطيا صهوة فرسه في اتجاه »دار الامان« وقتل على اسوارها، ثم تبين انه قُتل دونها، وانهم نقلوه الى براد المستشفى فلما لم يتعرف إليه احد ابقوه هناك ثلاثين سنة او يزيد، في انتظار مبادلة جثته ببعض الاسرى الاسرائيلية في هذا القطر العربي او ذاك.
اما الثاني فهو طيار اسرائيلي كانت قيادته تعتقد انه هوى بطائرته داخل الأرض السورية فاحتسب في عداد المفقودين… لكن حكاية ظهور التماسيح وفرت الفرصة لان تكتشف طائرته على الضفة الاخرى للبحيرة، ولان يكتشف انه ما زال في قمرة الطيار المقفلة، وقد حفظ انحباس الهواء عن جثته من التحلل، فكان ان نقل الى براد المستشفى تمهيداً لتشييعه.
هل هو ماضي الفلسطيني والاسرائيلي يتجمد ويرفض إشهار موته، ويصر ذووه على عدم دفنه واستبقائه في حاضرهم؟!
ام هي مجرد حكاية لمصادفة تتجاوز الخيال؟!
ام هم الاحياء في الداخل كذلك؟!
تلك اسئلة تطلقها رواية يحيى يخلف ولا تجيب عنها.
على ان »الدخول« هو بوابة الاسئلة الكبرى المعلقة بغير جواب.
صوت الحريق
شب الحريق، على غير توقع، في الوريقات الرقيقة والزخارف المتعرجة التي كانت تنتظم فوقها كجيش من النمل يتوزع فصائل فصائل، او تتبعثر فوق صفحاتها المصفرة كآثار قبلات عجلى على وجه صبي محموم.
تقافزت الكلمات عرائس من لهب، فانتشرت في فضاء القاعة الصغيرة كنيازك في التماعتها الاخيرة، قبل ان تندفع كل منها الى عنوانها الاصلي.
سرى الصوت نديا، فانتعشت الحروف وامتلأت بالمعنى حتى فاضت عن مواقعها واندلقت خارج مواضعها من الكلام. تهاوى الخرس، وانتفضت الرغبة في همس حميم يحمل العدوى ارتعاشا من شفة الى شفة، مستثيرا ذكريات الزمن الجميل ومستحضرا صور اولئك الذين كانوا مصدر الكلام ومرجعه.
تهاوت الاسوار المصفحة التي كان يتلطى خلفها الرجال المجربون والنساء المستكبرات، واولئك المتصابون الذين طالما اعتبروا الحب لعبة طفولتهم، يخرجونها للغواية، فإذا ما مزقت الصبايا بردهم من الخلف اضافوا اسماءهن الى قائمة التباهي ثم انصرفوا لمطاردة اللواتي لم يسقطن في شباك الجمال الذكوري الصاعق.
انطفأ اللهب تدريجا، لكن وهج الجمر المضمّخ بأنفاس لحظات الهناءة أضاء الوجوه والحنايا، فشعت القاعة بالدفء، وانهارت الاسوار التي كانت تفصل بين المتلاقين على المعنى، وشردت الكلمات تبحث عن مصادرها داخل الصدور.
تخاطفت الرغبات الرغبات.
وفي غابة الصمت بقيت وحدي انتظر ان يأتيني بك الصدى.
كنت ألمح طيفك يمرق داخل الحروف، يكمن في مخارج الالفاظ فيعبث بالحاء والباء والهاء والواو والالف، يجعلها مقصورة، يمط الآه بمدى الفراق ثم يقضمها قضما مقربا ساعة اللقاء.
اتصل الحوار بين عينيك والنغم لكأنه يأتي منهما ويعود إليهما فيلهيني عن السمع.
رفرف طيفك فوق الورق فاحترق.
وانفرطت الكلمات وأزمنة واسماء لما يعاش ولا يقال.
كان صوتها يصلني من داخلي فلا اسمع إلاّك.
وكان الناس يسمعونها بأصداء ذلك الذي يتردد في صدورهم فلا يقولونه او يخافون سماعه فيتجاهلونه ويهربون الى الكمد والتشكي من ظلم الايام.
صوتها…
ما اكثر ما غزلت العيون من قصص حب جديدة، ستحملها الكلمات قريبا الى اصوات تعيد غزلها حكايات جديدة.
يجيء الكلام من الحب، ثم يعيد إليه فيغنيه بالمعنى ليستمد منه غنى المبنى.
لكنك وحدكِ المكتملة المعنى والمبنى، خارج دوامة الكلام.
يتعب الناس في البحث عن الكلمات ليقولوا، ليبلوروا، ليحددوا، ليؤكدوا، وانتِ الواضحة الناصعة المنطوقة المحفوظة بغير كلام.
تطلين فيجلجل باسمك الصمت.
اما بعد ان تغادري فلا يتبقى غير الكلام بألسنة اللهب.
وعند الباب، كان يقف خفير يفتش الخارجين ليصادر منهم التنهدات الحرام!
رسائل من زمن الوجع
I أحاول الارتقاء إليك في عليائك فيشدني ضعفي نزولاً ويعز اللقاء، وتفرد الوحدة جناحيها مباعدة ما بيننا، وسرعان ما يحتل المسافة العتب الكظيم.
تحلقين بقوة دفع تستولدها ثقتك العظيمة بنفسك، واتهاوى تعاسة لانني قصرت او تخاذلت عندما جاءت ساعة الامتحان الصعب فكشفت خوفي وكادت تنفي حبي.
لا يعيش الحب في ظل الخوف. ينحبس عنه الهواء والدفء فيختنق.
أُعزي النفس بأنك تعرفين أكثر مما اريد ان اقول. لن اضيف الى علمك جديدا اذا ما هتفت فملأت رياح الارض بنبضات قلبي وهي تعلن أنك حبي الأوحد والأعظم.
***
II تعرفين عني ما لست أعرفه. تعرفين ما سأكونه غداً، ما سأقوله غداً، وأين سيرتج عليّ فأصمت. لكأن كلماتي تأتيني منك. لكأنك الذاكرة والفكر.
لكن الكلمات، حتى التي لم اقلها بعد، تظل اعجز من ان تحمل ما أريد ان يصلك مني.
الكلمات ليست اجنحة نطير بها. انها أرض نتلاقى فنتعانق او نتخاصم فوقها.
صمتك المدى الاوسع والكلمات الاندى.
***
III تتعالين في مواجهة الصُعُب، وأتراجع مخذولاً نحو الثرثرة الفضّاحة لضعف الارادة.
أقرأ في عينيك وجع العمر، وكنت ادخرهما لفرح الحياة.
يكمن لنا الشقاء في غدنا، وكنا نحسب اننا خلفناه وراءنا بعدما انهكنا الجهد للخروج منه.
نخرج من كهف السذاجة التي كانت توهمنا ان لنا السعادة كلها اما الشقاء فللآخرين، سواء من نعرف او من لا نعرف من اولئك الاشباح الذين يمرون بنا او نمر بهم، وقد يتساقط علينا غبار عذابهم والانين فننفضه عن ملابسنا ونتابع انطلاقتنا الميمونة نحو البهجة والاستمتاع بهبة الاله المرسلة لنا وحدنا، من فوق رؤوس الخلق جميعا.
هل جاءت لحظة الحقيقة؟!
هل آن اوان الاعتراف بأننا بشر؟!
من له عينان لا بد ان يعرف البكاء. من له قلب لا بد ان يصهره الحزن. من له مثلك لا بد ان يعبر درب الآلام لكي يستحقك.
فأنت خلف الوجع والحزن والبكاء.
وقليل هو الالم اذا كان ثمنا للوصول إليك.
أنت خلف. أنت فوق. أنت الشمال والجنوب وشرق الغرب وغرب الشمال أنت الامام.
أنت الزمان.
قبلك لم نكن شيئا، وبك صرنا، وبك نبقى.
***
IV يحاصرني طيفك فيشغلني عن وجع الحقيقة.
يأتيني ولا تأتين، وأبقى معلقا على حافة الوعد، وتذبل زهور الانتظار، وتشيخ الاغنية، ولا تنضب اللهفة ولا ينقص الشوق.
لا نسيان مع الحب.
يسقط ما قبله، يختفي ما بعده، ولا يتبقى غير الوجه الذي يجب ما عداه من وجوه، ويحتكر الذاكرة فيلغي منها كل الغير.
الحب…
قبله العمر تراكم من غبار الايام والحكايات المبتورة، المضيّعة معناها.
ومعه يمتلئ العمر ويمتد معطيا للثواني مدى النشوة، ويفتح باب الزمان فيتصل الاجداد بأحفادهم ويتوحّدون فيّ رجلا واحدا لأكون لكل النساء المختزَلات بك.
معه… اقصد معك، فلا عمر خارجك ولا عمر الا بك…
عمري قبلك مصادفة، ومن دونك مجرد سطرين في سجل حكومي يمحو الاسماء فيه الغبار والهجر والاهمال.
قبلك كنت بلا اسم، بلا تاريخ، بلا ذاكرة.
وعندما امتلآت بك تغلغل اسمي في ثنايا الشمس وانهمر مطرا ينبت السنابل والزنابق في السهوب القاحلة، فيؤرخ به موسم الخصب، ويستذكر به الناس أسماءهم الحسنى ويُخرجون الى الدفء قلوبهم المجرّحة بالخواء.
***
V اتمنى ان اخرج من طيفك إليك…
وأنت قبل الطيف، وفيه، وبعده.
وأنا الطيف الآن، احوم فوق اشيائك المزروعة فيّ، اعيد تجميعها لاعيد خلقك منها فتعصين، وتظل لك الفرادة في انك وحدك من تخضع لك الكائنات لتنال شهادة الميلاد.
وليس في شهادة ميلادي غير خاتمك، وفي قلب القلب منه اسمي مرصّع بحبك المفرد.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
في البدء، وقبل أن اعرف حبيبتي، كنت أرى النساء كثيرات. وكنت اتأفف وأشكو لنفسي ضيق الوقت الذي سيمنعني من ان آخذ لنفسي منهن ما يرويني… اما بعدما ابحرت في سفينتي، وغمرني الدفء، ورفّت عليّ قرونها بنسائم الزنبق والياسمين، فقد انتبهت الى ان الرجال كثر، ربما بما يفيض على الحاجة. مَنْ تراكَ الرجال جميعا لا تترك لك فرصة لان ترى النساء خارجها. الحب وحده يمكن ان يجترح مثل هذه المعجزة.