طلال سلمان

دولة في طريق اندثار

حتى إشعار آخر، يبدو متعذراً قيام دولة في لبنان، بل ان ما كان تبقى من الدولة يتهاوى بوتيرة متلازمة مع عودة المواطنين رعايا في طوائفهم.
فالدولة مؤسسات وتشريعات وقوانين، وقبل ذلك وبعده تلبية لاحتياج وتحقيق لمصالح شعب يؤمن بوحدته ويرى في الدولة تجسيداً لها.
في لبنان، الفريد في بابه، الأمر مختلف عنه في أي مكان في الدنيا… إذ ان الزعامات والقيادات والمرجعيات والوجاهات السياسية المرتكزة على مواقع الصدارة في الطوائف والمذاهب ترى نفسها فوق المؤسسات وتتوزعها اقطاعيات فيصير لكل زعيم في طائفته منها نصيب، له حق القرار فيه، ثم يتحول النصيب الى عرف.. والعرف أقوى من القانون والزعيم فوق المؤسسة ومرجعها، بأصولها وفروعها جميعاً.
ولأن الغرائز الطائفية في ذروة هياجها بل تهييجها المتعمد والمقصود، فإن الزعامات قد التهمت المؤسسات وعطلت دورها الجامع ووظيفتها المجسدة لدولة جميع مواطنيها.
… ها هي الدولة تتهاوى أمام عيون اللبنانيين، ولا تجد من ينجدها، تكاد كل مؤسسة فيها تصبح اقطاعية لزعيمها الذي يرى نفسه فوق الدولة .
ومع الأخذ بعين الاعتبار الاحداث الاستثنائية التي شهدها لبنان في السنتين الأخيرتين خاصة، والتي كانت مقدماتها قد بشرت بها منذ خمس عشرة سنة أو يزيد، فلا بد من الاعتراف بأن عملية تهديم اعرق المؤسسات في لبنان أو تشويهها أو اضعافها قد تسارعت في الفترة الأخيرة حتى باتت الدولة اسماً على غير مسمى.
? لأسباب متعددة هوت مؤسسة رئاسة الجمهورية من حالق… وبات التشهير بالرئيس وتحقيره واتهامه بافظع الارتكابات، وصولاً إلى شبهة المشاركة في جرائم عظمى، والتغطية على اشنع المخالفات، مادة يومية للتعليقات والمسلسلات التهريجية والكاريكاتور وكذلك لتظاهرات الغضب الحاشدة.
بقي الرئيس وذهبت الرئاسة.
? لأسباب تتصل بطبيعة التحالفات الانتخابية الاضطرارية أحياناً وغير الطبيعية أحياناً أخرى، والتي كانت دواعيها على وجه العموم طائفية ومذهبية، وُلد المجلس النيابي منقسماً على ذاته، يندر ان يتوحد على قرار من النوع التأسيسي.. وبالتالي فان دور المجلس كمؤسسة توحيدية، فضلاً عن كونها مصدر التشريع، معطل بالانقسام الطائفي المموه بالانحيازات السياسية.
? واستطراداً، فان الحكومة تعاني من معضلة واقعها المركب الذي يمنع ظهورها كمؤسسة موحَّدة وموحِّدة، ومصدر للقرار التنفيذي المؤكد بالاجماع، خصوصاً في ظل الحرب اليومية المفتوحة بين الأكثرية ورئيس الجمهورية الذي لم يعد له الا صلاحية… التعطيل، يلجأ إليه كلما اشتد عليه الحصار، فضلاً عن خطر انقسام الحكومة ذاتها أمام أي قرار من طبيعة تأسيسية.
.. كل نقص في دور المؤسسات أعطى نفوذاً إضافياً للزعامات والقيادات والمرجعيات والوجاهات ذات القاعدة الطائفية المموهة بالشعار السياسي.
وبالتالي صار أي خلاف، ولو شخصي، بين زعيمين صداماً بين طائفتين، وأحياناً صداماً داخل الطائفة نفسها، ودائماً على حساب ما تبقى من الدولة..
صار الشارع هو المسرح وحلبة المصارعة، وشحب دور المشرع والاشتراع والشريعة.
صارت المشاعر والغرائز الطائفية والمذهبية هي السلاح الحامي للزعامات المنصرفة إلى تناهب الدولة.
وهوى الصراع السياسي إلى حضيض الأمزجة والنكايات والاغراض الشخصية التي ترتدي قناع الحرص على أبناء الطائفة… ودائماً على حساب الدولة.
المفزع ان اندثار الدولة يعني اندثار السياسة، فضلاً عن تهالك العمل الحزبي والنقابي وترك البلاد لريح تجار الطائفية والمذهبية.
مع ذلك فإن الشارع ما زال بمجموعه أحسن حالاً من قادته .
لكن الشارع لا يحمي الدولة، فضلاً عن انه لا يبنيها.
ثم ان التصادم بين الزعامات والمرجعيات والقيادات والوجاهات الطائفية يتم فوق اشلاء الدولة، ويعيد المواطنين رعايا.
والرعايا لا يقيمون دولاً!

Exit mobile version