طلال سلمان

دولة في صندوق صغير

من يُخرج الدولة من الصندوق الصغير ذي الفتحة الضيقة الذي أدخلت يدها فيها، وما كان عليها أن تُدخلها، فصار مستحيلاً حسم الموقف الغريب إلا بواحد من حلين أحلاهما مرّ: كسر الصندوق أو تهشيم يدها!
نقول »الدولة« بغير تخوّف من المبالغة… فالضحايا المحتملون لهذا الوضع الشاذ والذي تتعقد عملية علاجه ساعة بعد ساعة، قائمة تطول، وفيها:
1 رئيس الجمهورية، المتهم الضمني من الأطراف المعارضة، والذي لا يجد من يدافع عنه، فإن ارتفع صوت ينصحه بالارتفاع بنفسه وبمنصبه السامي عن وحول هذه المعركة المحدودة بمفاعيلها وتأثيراتها إلا إذا »تورط« فيها فتتحول الى »واترلو«، لاحقت الشكوك ذلك الناصح الذي »يزين« الهزيمة ويريد للدولة أن تنكسر أمام خصومها الشرهين والمستقوين بخلاف أهل الحكم كما »بالحرب الأميركية على الإرهاب«!
2 وزير الداخلية الذي تدخل عشية المعركة وامتنع عن إعلان النتائج بعد انتهائها، وزاد في الالتباسات حين أضاف الى الصندوق المختلف عليه صندودقاً آخر لم يكن قد اكتشفه أحد من قبل… ثم أن من اكتشفه غير ذي صلاحية، وقد أضاف الاكتشاف إشكالات والتباسات جديدة!
3 القضاء عبر رجاله (ونسائه) الذين كانوا يرئسون لجان القيد، والذين طاولتهم الاتهامات الرسمية، مرة بالتشنيع عليهم لضعفهم في مادة الحساب، ومرة أخرى بالتلميح إلى »إهمالهم« الذي أدى الى احتساب صندوق واحد مرتين، ومرة ثالثة بعدم التزامهم بأصول واجباتهم في إعلان النتيجة، فور استخلاصها، ومرة رابعة بالاختلاف في ما بينهم حول نتيجة واحدة لمقعد انتخابي واحد دارت معركته بين مرشحين رئيسيين وثالث لإثبات حقه في الوراثة… ولم يكن الفرز يتطلب أكثر من ساعات معدودة.
4 الحكومة التي تصرفت حتى الساعة وكأن الأمر لا يعنيها، والتي خرجت من الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء بمواقف متعددة، بعضها يعبّر عن »الشماتة« برئيس الجمهورية، وبعضها يتشفى بغلط وزير الداخلية، وخلاصة الأمر أن المقعد المعلق مصيره ما زال يطير بين لجان القيد ووزارة العدل ووزارة الداخلية ولا يجد مكاناً يهبط فيه (برغم التوسيع الجديد لمطار بيروت الدولي بجناحه الغربي)..
بعد ستة أيام من الانتخاب الفرعي لا يُعرف الفائز في انتخابات كل تفاصيلها معروفة أكثر مما يجب، ولا يعرف المرجع الصالح لحسم هذه المسألة العالقة، ولا يعرف هل وزير الداخلية المستنكف عن ممارسات مهماته قد استقال »نكاية برئيس الحكومة« أم لا… وهل الحكومة اقتنعت بحديث رئيس الجمهورية عن القانون الذي استغرق معظم الوقت في جلسة مجلس الوزراء الخميس، أم أن لها رأياً آخر وما هو وهل ستعلنه أم لا؟!
ما لنا وللمحتفلين »بالانتصار التاريخي«، وبالذين »استعادوا اعتبارهم« بفضل أخطاء الذين جاءوا بعدهم لإنهاء عصر »النظام الفريد« وعهود الرؤساء القتلة وناهبي المال العام… ان هؤلاء الذين جاءوا من موقع النقيض يستدرجون الآن إلى حروب زواريب بين الأخوة الأعداء يضيعون فيها عن أهدافهم الأصلية التي تتصل بسلامة الوطن وبحقوق إنسانه فيه، وينساقون إلى التوغل في مستنقع الغرائز والعصبيات الجهوية والطائفية والمذهبية… وهو المسرح المثالي »لخصومهم«، ثم انه أبعد نقطة عن حيث يجب أن تكون »الدولة« في عصر سيادة القانون، والانتصار بالمقاومة ولها في معركة إجلاء الاحتلال الإسرائيلي عن الأرض اللبنانية.
وبكلام صريح: فليس للدولة »موقع« في هذه المعركة الانتخابية التي كان يمكن أن تنتهي فجر الإثنين، وتُنسى قبل أن ترتفع شمسه إلى كبد السماء… لولا الشبهة التي لحقت »الدولة« بأنها طرف فيها، بل بأنها »الطرف الخصم« فيها!
ومع كل يوم يمضي بلا إعلان لاسم الفائز بهذا المقعد المذهب تخسر »الدولة« من رصيدها المعنوي، ويخسر »رئيس الدولة« شيئاً من مهابة موقعه السامي، ويخسر مجلس الوزراء صورته كمؤسسة مؤهلة للحكم (خصوصاً وأنه يفتقد وحدته منذ زمن بعيد… ربما منذ تشكيل هذه الحكومة).
ومع كل يوم يمضي يعود التوتر الى »الشارع« الذي تعصف به حمى طائفية مستعرة، فيصبح سهلاً على قناصي الفرص استغلال المشاعر المهتاجة للجمهور الذي سيتفاقم شعوره بالظلم وحرمانه حقه في التعبير عن رأيه، ودفع الأمور نحو حافة الصدام مع »الدولة« المحاصرة الآن بالاتهام بالتزوير، وليس فقط بأنها تمثل غلبة فريق على فريق، نتيجة الدعم »الخارجي« للحكم فيها، بمعزل عن »إرادة الشعب المغلوب على أمره«!
ما العمل الآن، وكيف نُخرج يد الدولة من الصندوق ذي الفتحة الضيقة؟!
ليس الأمر كما في فلوريدا الأميركية وأخطاء الفرز اليدوي.. فليست لنا محاكم دستورية، دنيا وعليا للبت بمثل هذه الإشكالات، بل ان القضاء نفسه بات في موقع المتهم الان، ومن طرف جهات رسمية عليا، بما عطل قدرته على حسم الأمور بوصفه المرجعية الطبيعية التي لا يجادلها أحد في أحكامها.
وحده رئيس الجمهورية يستطيع، بنفوذه المعنوي، وبهيبة موقعه الجامع، وبمسؤوليته الوطنية الشاملة، أن يحمي »الدولة« من أن تجرَّح أكثر فأكثر، وأن يمنع استدراجها إلى صدام مع »الشارع«، وهو أكثر ما يفرح قادة »المعارضين«، لا سيما أصحاب السجلات الحافلة بالمجازر وحروب الأخوة وسارقي المال العام. ولعلهم يحتاجون إلى بعض »الدم« ليستعيدوا »الجنة التي طُردوا منها«.
إن الرئيس هو المرجع الأخير، وهو حامي الدستور،
ولأن »الدولة« في مأزق، فواجبه أن يُخرجها منه.
أما »المخارج« فما أكثرها إذا ما توفرت الإرادة للحل مع الحفاظ على الصندوق ذي الفتحة الضيقة ويد الدولة التي لا يرغب أحد في أن ينالها المزيد من الجروح!
هل من الضروري تذكير رئيس الجمهورية بأنه رئيس القمة العربية؟

Exit mobile version