لكل منا، نحن محترفي وهواة الكتابة في السياسة الدولية، طريقته الخاصة في التحليل ونقل الرسائل وإخفاء مصادرنا وأهدافنا أو الإعلان عنها. خطر على بالي هذا التصريح وأنا أقرأ مقالاً للسيدة روبين رايت، أحد نجوم مجلة النيويوركر والخبيرة في شؤون الشرق الأوسط، خصوصاً شؤون إيران ولبنان وجوارهما. وقد تابعت بعض ما كتبت السيدة رايت على امتداد سنوات غير قليلة. اختلفنا في الرأي كثيراً واتفقنا في غيره. توثق احترامي لها وتقديري للجهد الذي تبذله بحثا عن مصادر تؤكد بها صحة أو زيف معلومات جمعتها من مصادرها الأولية. وفي هذا الشأن أعتقد أنني لم أقابل أو أعمل مع كثيرين مثلها.
***
كتبت هذه السطور تقديماً للكتابة في موضوع يشغلني، وهو انحدار مكانة، وربما مكان، الولايات المتحدة في خرائط النفوذ. وفي حال صحّت التقديرات سوف أذهب بجل اهتمامي إلى محاولة استشراف شكل هذه الخرائط في المستقبل القريب وتوزيعات القوة عليها والتحالفات، خصوصاً التحالفات بين الدول إلى جانب تحالفات القوى الجديدة الصاعدة في مجال إنتاج التكنولوجيا وتوظيف المعلومات واستخدامات الذكاء الاصطناعي. لا أخفي أنني وجدت في مقال روبين رايت ما يؤكد أن هاجس الإنحدار الأميركي انتقل إلى صدارة الشغل الشاغل لمختلف أعضاء إدارة الرئيس بايدن وقادة المؤسسات.
روبين تكتب المقال وهي فترافقالجنرال كينيث ماكينزي- قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط وجنوب آسيا- في رحلة أخذتهما إلى العراق وسوريا وأفغانستان ولبنان خلال شهر مارس الماضي. من يعرف الكاتبة ويقرأ لها يلمس جوهر المقال وهدفه من سطور تمهّد القارئ لحال الإنحدار الأميركي. على سبيل المثال تقول السطور الغامضة، والدخيلة أيضاً، أنها والجنرال والفريق المرافق له استخدموا في أكثر من مشوار في هذه الرحلة طائرة مشيدة ومهيأة لنقل أكثر من مائة واثنين وثلاثين تابوت، وفي الطائرة أماكن لركاب أحياء. تكاد الكاتبة تقول للقارئ وللرأي العام الأميركي، مستخدمة هذه الصورة العنيفة والمباشرة في الكتابة، أن بايدن ينفّذ ما وعد به في حملته الإنتخابية، وهو سحب القوات الأميركية مهما كلّف الأمر بعد فقدان حوالي سبعة آلاف قتيل وإصابة أكثر من أربعة وخمسين ألف جندي هي مجمل الخسائر البشرية لأميركا في حروبها في المنطقة. أضيف هنا، من عندي، معنى هاماً متكرراً في عدد من كتابات أميركية عديدة وهو أن أميركا لم تخرج منتصرة من حرب واحدة من هذه الحروب.
***
كثيرون من أبناء جيلي عاشوا مرحلة جاذبية الحلم الأميركي. تجاوزناها. تجاوزنا الإنبهار ببهاء أميركا وجمالها وغناها. نراها كما تراها أقليات أميركية على حقيقتها. تعبت أميركا وتعبنا وهي تلقّنا تعاليم الواقعية. نجحت ونجحنا ولكن خسرتنا أو هي تخسرنا الآن. نحن أيضاً من الخاسرين. كانت في خيالنا نموذج قوة. إمبراطورية تملك من عناصر القوة الشاملة كل عناصرها. بشر على أعلى درجة من العلم والتدريب والإيمان بمبادئ عصر مختلف، آلات حرب في البحر والجو والبر لم تتوفر لإمبراطورية أخرى منذ اخترع الأقدمون عربة حربية يجرها زوج من الخيل. كانت في المقدمة مرتين خلال أقل من ربع قرن لتقود العالم نحو مخرج من حربين عالميتين وإعلان نهاية استعمار مكلف ومتخلف. عشت شخصياً بعض هذه الانتصارات العسكرية المبهرة. ولم أعش بعدها انتصاراً أميركياً يُذكر. أذكر جيداً عبقرية كيسنجر التي أخرجت القوات المسلحة الأميركية من شبه جزيرة الهند الصينية قبل أن يفترس الفيتناميون ما تبقي على أراضيهم من مقاتلين أميركيين ومن سمعة للعسكرية الأميركية. أذكر أيضاً خروجهم غير الكريم عام 1983 من لبنان وفي ركابهم سمعة الدولة الأعظم، وهي السمعة التي خرجت ولم تستعد مكانتها في الشرق الأوسط منذ ذلك الحين. ولكن وللحق عشت فترة لا تنسى كنّا شهوداً على عمل أسطوري قامت به عقول أميركية أو قادت القيام به لتنشئ نظاماً عالمياً يجلّله ميثاق وتديره مؤسسات وبقي إلى يومنا هذا، وإن مهلهل حتى بتنا نسأل عن الجديد الذي سوف يحل محله ونتساءل عن شكل المعركة التي سوف تسبق وضعه وإن كانت قيم المنتصر تستحق أن تسود وتهيمن برضاء أغلبية بين الأمم.
***
حملت القناة الأميركية لنا قرار هيئة المحلفين في قضية مصرع جورج فلويد الشاب الأسود تحت ركبة ضابط شرطة أبيض في مدينة منيابوليس. الضابط مذنب لاشك في الأمر فقد رأينا بعيوننا الشاب وهو يلفظ أنفاسه مستغيثاً بأمه بينما وقف الضباط البيض لحماية زميلهم من غضب المارين ورفضهم ما يحدث أمامهم. يومها، أقصد يوم صدور قرار المحلفين، توقّعت وقوع مظاهر غضب بين السود تختلف نوعياً عن انتفاضاتهم السابقة، توقّعت أيضاً موجات من الترقب والتوتر داخل أوساط الملونين بألوان أخرى غير اللون الأسود. الكثرة غير مطمئنة لنوايا “المؤسسة الحاكمة” التي، في نظرها، سمحت مجبرة بصدور هذا القرار من هيئة المحلفين.
القرار بدون شك أثار حفيظة التيارات المتطرفة عنصرياً، خصوصاً التيار الذي تعوّد أن يعلي من نظرية تفوق الرجل الأبيض. هناك صحوة لا تخفى على عين فاحصة تراقب تطورات العلاقات الدولية. صديق من ألمانيا يعمل في مجال المعونات لفقراء العالم تنبأ أمامي بموجة “تشنجات” في دول الغرب التي تستعد لصدام “استعماري” جديد ساحته القارة الإفريقية، نذكر جيداً الصدام الذي وقع في نهاية القرن التاسع عشر وما انتهى إليه، وكنا من ضحاياه. لا أتصور صداماً جديداً، ومن أطرافه إلى جانب أوروبا أميركا وروسيا والصين، سيكون أقل تأثيراً في تطور السلم والأمن الدوليين. أتوقع للأسف أن تكون أميركا الساحة التي تُجرى فوقها المعركة الحاسمة التي سوف تقرر مصير نظرية تفوق الرجل الأبيض. لن أكرر ما يفعله محللون في الغرب والشرق معاً فأقلل من خطورة ومصير موجة العنف الراهنة في الولايات المتحدة ضد الأميركيين من أصول آسيوية أو أقلل من شأن الموجات المتقطعة ضد الوجود الإسلامي في القارة الأميركية. نعرف أن قطاعاً في الدولة، بل الرئيس نفسه، كان مشاركاً في صنع وتنفيذ الحملة ضد الأميركيين من أصول إسلامية، ونعرف أن قطاعات في السلطة كانت وراء عدد من الحملات المنظمة ضد الوجود الأصفر، خصوصاً الياباني والصيني وحملات أخرى متصلة ومتواصلة ضد الوجود الأسمر وأقصد اللاتيني. بحكم تجاربهم عبر القرون، يلح اليهود اليوم على الكونجرس الأميركي لإصدار قانون يمنع تعرضهم لموجات أو حملات من هذا النوع من التفوق العنصري، اليهود أنفسهم يخافون من عنصرية الرجل الأبيض إن تطرف أو طغى أو هيمن.
***
الجيش الأمريكي ينسحب ولم ينتصر. صورة أميركا تغيرت. بدت في أكثر من صورة التُقطت لها في السنوات الأخيرة دولة عظمى ضعيفة. يسألوننا، هل حقا أميركا، في نظر الآخرين، دولة ضعيفة حتى وهي عظمى؟ الدول العظمى ضعيفة في نظر الآخرين إذا أنهكت نفسها في حروب خارجية لا طائل من ورائها ولا تحقق مكسباً واضحاً. هي ضعيفة أيضاً في نظر نفسها ونظر الآخرين إذا اعتمدت في أحلافها على دول ضعيفة أو مترددة أو خائبة. وهي أيضاً ضعيفة رغم ادعائها العظمة إذا افتقرت إلى نموذج حياة مرغوب من آخرين، هي ضعيفة إذا فقدت ثقة أقرب حلفائها لتخليها عنهم وقت أزمة. هي بدون شك ضعيفة إذا تدهورت بناها التحتية وتبعثرت وشائج المجتمع أو ضعفت وصار العنف وحده آلية حكم وفرض نظام.
نعم، أميركا دولة عظمى ضعيفة. خرجت أميركا من عهد ترامب ضعيفة أو لعلها كانت ضعيفة من قبله، وتحديداً منذ وقعت في وهم القطبية الأحادية، الوهم الذي حرضها على الدخول في حرب ضد أفغانستان ثم العراق.
ينشر بالتزامن مع موقع “الشروق“