صارت »جنتا« القرية البقاعية الفقيرة والمنسية والضائعة في جرود الحدود بين لبنان وسوريا في مثل الشهرة التي كانت عليها قلعة »ديان بيان فو« الفيتنامية، مع فارق أن جنتا قاعدة للوطنيين وليست لجيش الاحتلال..
فالطيران الحربي الإسرائيلي لا يكاد يغيب عن سماء هذه المزرعة الصغيرة التي لا يملك أهلها إلا القليل من أرضها، حتى يعود ليرميها بمزيد من النيران، ومع ذلك صبروا ويصبرون على فقرهم صبر »أيوب«، وصمدوا ويصمدون في مواجهة الغارات الإسرائيلية، على ضراوتها، لأنهم وُلدوا في الصعب وفي الصعب يعيشون، وقد بات لهم الآن قضية تعطي تضحياتهم شرفها إذ ترتبط بالدفاع عن الوطن وحق إنسانه فيه.
صارت »جنتا«، ومعها الآن القرية البعلبكية الأخرى »نحلة«، أشبه بصندوقة اقتراع، كلما أراد مرشح لرئاسة الحكومة الإسرائيلية المزيد من أصوات الناخبين الإسرائيليين زاد من عدد الطلعات وعدد الغارات وعدد الضحايا اللبنانيين…
يتطرّفون بقتل المزيد من أطفالنا، بصواريخ طائراتهم الحربية الأميركية، فتتزايد آمالهم بالوصول إلى قمة السلطة في إسرائيل… والفوز لمن يقتل أكثر!
كأنما يرتقون إليها على جثثنا.
كأنما يردّون على »حرب العصابات« التي تشنها المقاومة الباسلة على جنود احتلالهم فوق أرض لبنان، »بحرب عصابات جوية« تطارد أشباح المجاهدين المنبثين في أحداق أطفالنا وقلوب نسائنا والرجال، كما في كل البيوت، في المدن والبلدات والقرى والدساكر والمزارع من شبعا التي تقوم على حراسة جبل الشيخ إلى جنتا ونحلة اللتين تحرسان البوابة الخلفية لدمشق.
أما في السياسة فيمكن القول، من دون خوف السقوط في المبالغة، إن لبنان قد بدأ يلعب بفضل مقاومته الباسلة، والقدرات المتطورة لمجاهديها الميامين، دورا بارزا في »الداخل الإسرائيلي«.
ولقد فرضه الصمود المعزَّز بالتضحيات طرفا مؤثرا في الحياة السياسية وصراع القوى المختلفة والمتناثرة بين أقصى التطرف يمينا وأقصى التطرف يسارا، ودائما انطلاقا من مصلحة الكيان الصهيوني الجامع لليمين واليسار بلا أدنى تحفظ أو تحرّج عقائدي!
فهذه هي المرة الثانية خلال ثلاث سنوات يذهب فيها الإسرائيليون إلى انتخابات مبكرة، أي في غير موعدها الطبيعي، وبين الأسباب المعلنة لتبريرها عجز الحكم الإسرائيلي عن مواجهة الاستمرار في احتلال لبنان وبالتالي عجزه عن القضاء على مقاومته الوطنية الإسلامية، المعزَّزة بالصمود السوري وأسباب الدعم المفتوح، إضافة إلى الالتفاف الشعبي الممتاز.
وطالما استمرت إسرائيل عاجزة عن الانسحاب من لبنان وعاجزة عن إدامة احتلالها له، فإن مأزقها السياسي مرشح لأن يتفاقم، ولن يحلّه تبديل الحكومات والانتقال من »جنرال مدني« متطرف، مثل شيمون بيريز، إلى جنرال مدني أكثر تطرفاً مثل بنيامين نتنياهو.
طبعاً لم يسعَ لبنان إلى مثل هذا الدور، ولم يدر في خلد اللبنانيين يوما أن يتحكّموا باللعبة السياسية الإسرائيلية، وأن يقرروا من يكون »قاتلهم« من بين الجنرالات المدنيين المزايدين على العسكر في إسرائيل.
لكن ما دام »الأمن« هو »التجارة الانتخابية« الرائجة إسرائيلياً، فإن القادر على إيقاع الخسائر في صفوف عسكر الاحتلال يصبح »صاحب صوت قوي« في الانتخابات: إذ قد يستخدم إنجازه ذريعة لتقديم الموعد أو لتأخيره، وقد يستغل لإنشاء تحالفات غير منطقية في الظاهر، هذا إضافة الى تأثيره البالغ على »الصوت العربي« داخل الكيان الصهيوني ولمن يعطى وبأية شروط.
لقد بالغ بيريز في إظهار كفاءته »العسكرية« عبر عملية »عناقيد الغضب« التي تُوِّجت بمجزرة قانا، فكانت النتيجة ان فاز عليه الجنرال الأكثر تطرفا نتنياهو.
وها هو نتنياهو يواجه الآن مجموعة من الجنرالات الفعليين إضافة إلى منظومة خصومه السياسيين التي يلتقي في ظلالها خليط من الطامحين إلى رئاسة »القوة الإقليمية العظمى« في منطقتنا.
مرة أخرى »عمادة النار« لرئيس حكومة إسرائيل المقبل ستجري فوق الأرض اللبنانية، مع أن الامتحان الفعلي يجري فوق أرض القضية الفلسطينية، واللجنة الفاحصة كانت وتبقى أميركية.
وعلينا أن نتوقع غارات انتخابية متعددة، سيكون لها ضحاياها من أبنائنا في البقاع والجنوب وسائر أنحاء لبنان.
وخيارنا الوحيد المتاح، كما هو قرارنا، الصمود.
فقط بهذا السلاح نستطيع نقل المشكلة إلى عند عدونا، ويمكن بالتالي أن نقرّب لحظة هزيمة الاحتلال فوق أرضنا، وربما لحظة »الانتفاضة الثانية« في فلسطين التي من شأنها أن تغيّر الخريطة بكاملها.
… وبهذا لا يبقى أمام لجنة تفاهم نيسان من دور إلا دور لجنة »الطعون الانتخابية« للمرشحين الكُثُر لرئاسة إسرائيل، تزكي واحدهم على الآخرين بقدر ما تسجل له من »خروقات« وضده من »إدانات« ولحسابه من الضحايا الذين بالكاد تعرّفوا على الانتخابات وصندوقتها السحرية القادرة على اجتراح العجائب!