في 28 أيلول 1961 نجح الانفصاليون في سوريا في ضرب دولة الوحدة التي كانت قد أعلنت في 22 شباط 1958 بالوهج الجماهيري الكاسح لشخصية جمال عبد الناصر فجمعت مصر وسوريا في الجمهورية العربية المتحدة .
.. وجاء رد الفعل الأولي لجمال عبد الناصر انفعالياً يحركّه الغضب والشعور بالخذلان، خصوصاً أن دولة الوحدة التي أقيمت على عجل، وبتأثير العاطفة المشبوبة تجاه حلم عزيز تحمله الصدور قبل العقول، قد تعرّضت منذ اللحظة الأولى لقيامها إلى حملة غربية إسرائيلية (وعربية) كاسحة صوّرتها استعماراً مصرياً للإقليم الشمالي (سوريا)، وضرباً للطموح إلى الديموقراطية التي كان العرب بالكاد قد تذوّقوا طعمها وعرفوا الطريق إليها.
استعرت حرب سياسية شرسة، كانت أسلحتها المخابرات (مع تنوّع هائل في جنسياتها) والإعلام والتحالفات الاضطرارية المؤقتة ومهادنة بعض الخصوم تفرغاً لقتال الانفصاليين الذين انتظموا في جبهة عريضة طليعتها سورية لكن في ثناياها كثيراً من الرجعيين العرب والغرب كله وإسرائيل منتشرة هنا وهناك…
بعد عام ونصف سقط الانفصاليون في دمشق، لكن دولة الوحدة لم تعد إلى الحياة، واكتفى جمال عبد الناصر بعلاقات أخوية طبيعية مع سوريا، ولم يتحمّس كثيراً لتجديد الوحدة ثلاثية مع العراق الذي كان قد استولى على الحكم فيه، كما في دمشق بعده بشهر، حزب البعث العربي الاشتراكي… وواجه الجميع صعوبة العودة إلى علاقات أخوية طبيعية.
هذا كلام في التاريخ.. لكنه درس مفيد، بل وضروري، لكل من سوريا ولبنان، بعد كل الذي كان بينهما من تقارب إلى حد ذوبان الأصغر في الأكبر، ومن افتراق كاد يلامس حدود الحرب على امتداد العام الماضي، خصوصاً أن جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري قد فتحت خندقاً من دم لم تتوان الدول عن تعميقه لاستغلاله في تحويل الشكوك إلى قرارات في مجلس الأمن الدولي، بعد أن جعلته حاجزاً صلداً بين الشعبين الشقيقين يتبادلان من خلفه الكراهية والاتهامات بالتسلط والإفساد والهيمنة والإذلال وفرض التبعية ومنع اللبنانيين من ممارسة حقهم في الاستقلال والسيادة والديموقراطية والوحدة الوطنية إلخ.
أمس، وبالمصادفة المدروسة جيداً، وقع حدثان يؤكدان توغل السلطتين في البلدين التوأمين، في حقل الأخطاء السياسية الأشد إيذاءً من الألغام العنقودية كالتي زرعها الاحتلال الإسرائيلي على طول الحدود مع لبنان إثر إجباره بالمقاومة المجاهدة على الخروج منه مطروداً، في مثل هذه الأيام من العام ألفين:
? الحدث الأول فرّح الأكثرية النيابية في لبنان، وهي التي تسود ولا تحكم، بالقرار الجديد لمجلس الأمن الدولي (1680) الذي يشجع بقوة على إقامة علاقات دبلوماسية وترسيم الحدود بين البلدين.
? والحدث الثاني إقدام السلطة في دمشق على اعتقال مجموعة من المعارضين السوريين، غالبيتهم من المثقفين، كتاباً وفنانين وأصحاب رأي، لأنهم وقعوا عريضة مع أقرانهم اللبنانيين تطالب بتجديد العلاقات اللبنانية السورية بعد الأهوال التي عاشها الشعبان الشقيقان خلال فترة الهياج طلباً للثأر أو الانتقام، أو رفضاً للهيمنة والتحكّم وتسلّط المخابرات، على قاعدة الأخوة الصحيحة والاعتراف المتبادل بين الدولتين اللتين تجمعهما إلى وحدة الانتماء القومي المصالح المشتركة واحتياج كل منهما إلى الآخر.
ومع أن السلطة في دمشق تعترف لهؤلاء المعتقلين بوطنيتهم، بل بتطرفهم في الوطنية بحيث أعلنوا استعدادهم للقتال مع نظامهم ضد الاحتلال الأميركي الذي كاد يمد ظله الأسود إلى سوريا، إلا أنها لم تستطع أن تتحمّل منهم موقفاً مخلصاً في حرصه على توطيد الأخوة بين الدولتين الشقيقتين باعتراف كل منهما بالأخرى لكي يفصل الخلاف بين السلطات عن جوهر العلاقات الأخوية التي لا غنى لكل طرف منها عن الآخر.
إن سوراً من الأحقاد والكراهية يرتفع بين الدولتين الشقيقتين، يومياً، بفعل هذه الممارسات السياسية الخاطئة التي يبدو كأن السلطتين في بيروت ودمشق تتنافسان في ما بينهما على من يحرز المرتبة الأولى فيها.
وأبسط ما يمكن أن يُقال لأصحاب السلطة هنا وهناك: دعوا الشعبين يعيشا أخوّتهما كما يرغبان. فقط ارفعوا أيديكم وشكوككم وريبكم بالشعبين فإذا هما شقيقان كما كانا من قبل وكما سيكونان دائماً.