ها هي القمة العربية تعطي ثمارها الاولى، فتكتسب مزيدù من المصداقية مما يؤهلها لأن تكون نقطة النهاية لمرحلة من الانقسام والتشرذم والتناحر لحساب »العدو« الاسرائيلي، ونقطة بداية لمرحلة جديدة في سياق هذا الصراع المفتوح والمقدر له ان يرسم التاريخ الجديد لهذه المنطقة التي فيها بدأ التاريخ.
فالحركة النشطة التي بادرت اليها دمشق، وعلى أكثر من صعيد، تؤكد التزام القيادة السورية بانجاح القمة وانفاذ قراراتها، كتمهيد ضروري لاستيلاد أوضاع جديدة عربيù واقليميù تتيح فترة من التنفس والاستعداد لمواجهة التحدي الاضافي الذي فرضه صعود التطرف الاسرائيلي الى قمة السلطة، بطروحاته التي تنسف مشروع السلام (الاميركي) وتعيد اللغة الحربية الى التداول باعتبارها المفضلة عند بنيامين نتنياهو.
ان دمشق تنفذ ما التزمت به للمساعدة في اشاعة مناخ صحي، يحسِّن شروط المواجهة: فتبذل مساعيها الحميدة بين طهران والمنامة لاعادة المشكلة في البحرين الى حجمها الطبيعي والى مرجعها الطبيعي، أي العائلة الحاكمة في تلك الجزيرة المضطربة والتي يعاني شعبها أزمة سياسية حادة ذات ابعاد اقتصادية واجتماعية متفجرة.
كذلك فهي تكمل ما بدأ في القاهرة من جهد لنزع الفتيل من ازمة العلاقات مع عمان، والتي ترجع في أسبابها الحقيقية الى التفرد الاردني والى الاندفاع المحموم للملك نحو ارساء قواعد »الشراكة« مع الكيان الصهيوني على حساب مجمل علاقاته العربية، وفي الطليعة منها العلاقات مع سوريا ومع الفلسطينيين الذين وفرت له قيادتهم الرسمية الغطاء الضروري لمغامرته غير مضمونة العواقب مع رابين بيريز بداية ثم مع نتنياهو.
أما مع تركيا التي كانت حكومتها السابقة قد تورطت في معاداة دمشق الى حد المشاركة في محاولات الاخلال بالأمن داخل سوريا، فان القيادة السورية قد انتهزت فرصة وصول التيار الاسلامي بقيادة نجم الدين اربكان الى السلطة في أنقرة، لكي تبادر الى فتح الباب لحوار صحي وضمن جو طبيعي في ظل علاقات حسن الجوار، وروابط الدين، من اجل بناء علاقة طيبة ومفيدة للبلدين معù، سواء على مستوى المصالح الحيوية المشتركة (وفي الطليعة منها مياه الفرات)، او على مستوى الامن القومي لكل من البلدين اللذين تجمعهما الجغرافيا والمصالح وبعض التاريخ وتفرق بينهما الضغوط الاجنبية وبعض التشوهات السياسية »المعتقة«!
ان دمشق توظف نفوذها وفهمها العميق لطبيعة العلاقات الاستراتيجية مع ايران الثورة الاسلامية لخدمة العرب، في حين اثبت العداء لهذه الجمهورية الصديقة انه مدمر للطرفين معù، اضافة الى كونه غير مبرر، ويقدم خدمة مجانية لاعداء العرب والايرانيين معù.
كذلك فسوريا التي ظلت تحاول لجم »الشوفينية« التركية والاستعلاء الاتاتوركي الذي وصل الى حد التحالف العلني (العسكري والامني اضافة الى السياسي) مع العدو القومي للعرب كافة، اسرائيل، من دون التورط في صراع مباشر مع المؤسسة الحاكمة في أنقرة، تستجيب الان لاول مبادرة »وعي« وانسجام مع حقائق الحياة في أنقره، لكي تفتح صفحة جديدة تصير معها علاقة التواطؤ مع اسرائيل من تراث الماضي الذي يرغب الجميع في نسيانه.
ولعل هذا التطور الاستثنائي في تركيا، بين اسباب عديدة أخرى، يفسر »الطراوة« في المسلك الأردني ازاء دمشق.
على ان الحركة السورية النشطة تجد اكتمالها في التحرك المصري المحسوب جيدù، والمتمثل في زيارة التشاور والتنسيق الدورية التي يقوم بها الرئيس المصري حسني مبارك الى باريس، والتي تؤكد على نوع من »التكامل« العربي الاوروبي في مواجهة »الجنون« الاسرائيلي الذي يحظى بقدر من »العطف« او »التفهم« الاميركي الناسف للعملية السلمية.
القمة العربية لم تكن اذن مجرد بيان مجاملة فرضه الاضطرار، ثم انفض السامر وذهب كل الى شأنه.
لقد بدأت في مصر، ولكنها عبر العاصمتين المحوريتين، دمشق والقاهرة، تتوالى فصولاً بحيث تشكل نقطة انطلاق جديدة لسياسة عربية جديدة لا تلم شمل العرب فحسب ولكنها تعيدهم الى مركز التأثير، اقليميù ودوليù، وتحاصر الحدث الاسرائيلي المستفز في اطاره كعملية عدائية تجاه الارادة الدولية بقدر ما هي عدائية تجاه العرب اجمعين بدءù بفلسطين وانتهاء بموريتانيا!