طلال سلمان

دمعة في وداع طلال سلمان

لأنه لم يترك أمراً للصدفة، لا بد أنه اختار موعد رحيله، لسبب ما، يصعب تحديده الآن. لعله قرر المغادرة في الخامس والعشرين من آب أوغسطس، بالذات، لأنه على ما قيل، يوم مولده، في العام 1938. لكنه لم يكن يوماً في سنواته ال85، منكفئاً على نفسه، مشغولاً بصورته، وذاتيته. لا بد من سرٍ تركه خلفه، وصية أو رسالة ما لم يبح بها لأحد، عن تلك المغامرة الصحافية الشيقة التي امتدت نحو 42 عاماً.. ولم تنته بعد.

بالأمس قرر طلال سلمان أن يرحل بصمت، من دون أن  يكتب عن “السفير” بقدر ما كتب في “السفير”..عن ذلك التاريخ  الذي لم يدونه، والذي كان يفتقده أهل الصحافة والثقافة والسياسة في لبنان. عن سابق تصور وتصميم، إختار ألا يكتب، برغم أنه ظل يتمتع بالقدرة على الكتابة حتى أسابيع العناية الفائقة، ربما لأنه ظل يشعر بأن التجربة فاقت توقعاته الاولى وتقديراته الاخيرة..حسبما شاع دائماً بين أفراد أسرته الصحافية التي كبرت وترسّخت في بيروت قبل ان تنتشر في “أربع رياح الارض”، عندما صارت صحيفته علامة لبنانية وعربية فارقة، ومنصة بارزة لليسار العالمي..تستضيف كبار الكتاب والروائيين والفنانين اليساريين من فلسطين وسوريا ومصر والعراق والبحرين وتونس والمغرب، ومن إيران وتركيا وبقية بلدان العالم الثالث.

ربما تردد طلال في الكتابة عن تلك المغامرة لكي لا يبدو نصه شخصياً، بينما التجرد يقتضي الاعتراف بان “السفير” كانت ناجحة جداً، في زمن كانت فيه بيئتها السياسية خائبة جدا. ولم تكن الصرخات المنشورة على صفحاتها لتوقف ذلك المسار الانحداري المتسارع: صدرت الجريدة لتكون صوت اليسار اللبناني، والحركة الوطنية الفلسطينية. لكن هذه المهمة لم تصمد سوى بضع سنوات، إذ سرعان ما اغتيل كمال جنبلاط وسقط برنامج الاصلاح الديموقراطي،  وتعرضت المقاومة الوطنية اللبنانية والفلسطينية، للتصفية الفعلية التي توجت بالغزو الاسرائيلي العام 1982. وكان التسليم في ما بعد بمرجعية النظام السوري في لبنان أشبه بالاحتكام للجغرافيا لا السياسة. ودخلت “السفير”، في مفارقة غريبة، ما بين الحفاظ على هويتها السياسية، القومية-العلمانية،  وبين التكيف مع جدول الاعمال السوري في لبنان القائم على عناوين وشعارات وأدوات مناقضة تماما.. ومعادية في الاصل وفي الجوهر لأي مشروع يحفظ الوطنية اللبنانية، ويتطلع الى تغيير واصلاح النظام الطائفي اللبناني.

لم يكن طلال سلمان واهماً عندما عقد ذلك التحالف “الجغرافي” مع النظام السوري، وكسب حصانة أمنية لا شك فيها، مثلما لم يكن متنكراً لعروبته عندما ابتهج بالثورة الاسلامية في إيران، وزحفها الاول على العراق، والثاني على لبنان، والاخير على سوريا واليمن. لكن وقائع المشرق العربي لم تكن تدع مجالا للشك في أن الصحافة ليست سياسة و”السفير” ليست جريدة حزبية..وهي ما زالت تحفظ في سجلاتها أن “صاحبها ورئيس تحريرها” لم يكن يتمتع على الدوام بأغلبية في مجلس تحريرها، بل لم يكن يقبل ان ينتمي لذاك المجلس، سوى مختلفين عنه ومعه، يصوتون ضده أحياناً، ويضطر بين الحين والاخر الى مخاطبتهم، بوجلٍ، داعياً الى إحترام مصلحة الجريدة.. بينما كان الهمس يدور من خلف ظهره، انه كان وسيبقى رئيس تحرير عظيمٍ ، لأنه يقبل في مؤسسته هذا التنوع والتعدد، بل والتناقض الى حد المخاطرة بالأمن. وكان النمّ المتكرر عليه، يفيد بأنه لم يعد يحتمل هذا التفلت.. مع أنه لم يلجأ يوماً الى إبعاد أحد من جريدته لاختلاف في الرأي.

يصعب رثاء طلال سلمان بلا دمعٍ، لا سيما لمن شغل لسنوات طوال مقعداً في قاعة مجلس التحرير، التي كان يتصدرها رئيس تحرير ويتحدث فيها كل مساء بصوت متهدج ومتقطع، عن صعوبة نشر كلمات “السفير” وحروفها في هذا الجو الخانق من النكبات والهزائم، التي لم تتوقف يوما، من عمره، ومن عمر جريدة، لا تزال تفتقد كل صباح، حتى بعد مرور سبع سنوات على توقفها عن الصدور.

موقع جريدة المدن

Exit mobile version