يمكن لأسلحة جيش الاحتلال الإسرائيلي في البر والبحر والجو أن تعمل قتلاً وتدميراً وتهديماً في غزة ومخيمات اللجوء فيها ومن حولها حتى تجعلها بحيرة من دماء الرجال والنساء والأطفال، مطمئنة إلى أن أحداً في الخارج العربي والدولي لن ينتبه إلى المذبحة، وبالتالي فلن يحتج، ولو لفظياً واستنقاذاً للشكليات.
بل إن أحداً من أصحاب النخوة العرب، النفطيين منهم بالذات، لن يبادر إلى استنقاذ المستشفيات التي باتت مجرد برادات لجثث الشهداء مع انعدام الأدوية والأمصال ولوازم النجدة السريعة وتهالك معداتها وغياب أطبائها الذين يتمزقون بعجزهم ألماً.
لقد طغت الخلافات بين أهل السلطة الفلسطينية، المدجج كلهم بأنه منتخب شرعاً، فغطت على جوهر الصراع، بل هي أخرجت إسرائيل تماماً منه، مقدمة احتمال الفتنة الداخلية على المواجهة المفترضة مشتركة بين عموم الشعب الفلسطيني و العدو الإسرائيلي.
واقعياً: انتظمت جبهة تضم الرئيس ومعه معظم الدول العربية وإسرائيل في محاصرة الحكومة تحت مظلة دولية تتصدرها الإدارة الأميركية وتمشي أوروبا في ركابها.
واحتدم الصراع بين شرعية الرئيس المنتخب المعزز بكل المواثيق والهيئات المنسية، وبين الحكومة المنتخبة والمحاصرة في الداخل والخارج… ولعل أخطر الأسلحة التي وُوجهت بها الحكومة في قلب العزلة المفروضة عليها كانت وثيقة الأسرى التي ترددت في تبنيها موفرة للرئيس فرصة الدعوة إلى الاستفتاء الذي قد يتحوّل من وسيلة للابتزاز السياسي إلى الموعد الرسمي لانفجار الحرب الأهلية، لو تمّ اعتماده فعلاً.
في أي حال، تستطيع فلسطين أن تنتظر.
فالإدارة الأميركية ومعها العرب يحتفلون هذه الأيام بالإنجاز التاريخي متمثلاً في القضاء على التكفيري الخطير أبي مصعب الزرقاوي ، الذي دخل العراق تحت الاحتلال بتسهيلات عربية وأميركية تكاد تكون معلنة… ثم إنه بعدما استقر في أرض الرافدين رفدته الأنظمة العربية بمعظم التكفيريين من رعاياها، الذين بدلاً من أن يزعجوها فتحت لهم عبر الزرقاوي أبواب الجنة.
ولم يكن يعني الاحتلال الأميركي ولا الدول العربية التي تخاف من معارضيها أو المعترضين على سياساتها من التكفيريين ، أن يتحوّل هؤلاء تحت قيادة قاصرة فكرياً وجاهلة دينياً وعمياء بالتعصب، إلى مقاتلين ضد المسلمين وليس ضد الكفرة حتى بمفهومهم، وأن يحرفوا الجهاد عن سياقه ليوجهوه ضد إخوانهم في الدين والوطن، بدلا من أن يكون ضد المحتل ، الذي يفترض أن يكون حتى بمفهومهم رأس الكفر ، وجهاده واجب شرعاً.وهكذا فإن مقارنة بسيطة تفرضها المصادفات القدرية تبيّن أن العدو الإسرائيلي قد قصر في فلسطين عن تحقيق إنجازات بمستوى تلك التي حققها الزرقاوي ومن معه في العراق… وأحكام الإعدام بالسيارة الناسفة، وبالهجمات المنظمة على المساجد والحسينيات وعمليات الخطف والقتل الجماعي في الأسواق والتطهير المذهبي للمناطق، كل ذلك يظهر الزرقاوي متفوقاً على إسرائيل في القتل والتنكيل وزرع الفتنة والتمهيد لتوسيع دائرتها المدمرة على امتداد الوطن العربي، مشرقاً ومغرباً.
وبين القصور السياسي والقصور الفكري، والعجز عن القرار، تصبح فلسطين قاب قوسين أو أدنى من الضياع، ويصبح العراق قاب قوسين أو أدنى من التفسخ والتشرذم، ويصبح خوف العرب من مشاريع الحروب الأهلية التي تلوح مخاطرها في الأفق أعظم بكثير من خوفهم من المحتلين سواء أكانوا إسرائيليين، كما في فلسطين، أم أميركيين كما في العراق… وأقطار أخرى تموّه الاحتلال بالتعاون تحقيقاً للفوضى الخلاقة.
إن الدماء العربية المهدورة تطمس الطريق إلى المستقبل بدلاً من أن تضيئه بالشهادة نحو هدفه الجليل: التحرير.