تهدّج صوت المذيع فكاد يبكي، وطغى عبر المذياع هدير الحشد في جنين التي جاءتها سلطة الحكم الذاتي بحوامة مصرية تحرسها حوامة إسرائيلية للاحتفال »بتحريرها«.
كان للكلمات رنين مختلف. ليس طبيعيù أن تسمع تعبير »جنين المحررة« من مذيع إسرائيلي في »البرنامج العربي لصوت إسرائيل من أورشليم القدس«. ثمة خطأ في مكان ما، في مفهوم ما، أو أن اللغة خرجت من جلدها ولم تعد لها وظيفتها المعروفة في التعبير أو في التحديد أو في توضيح المعنى.
مَن حرَّر مَن؟!
هل »تحرّر« الإسرائيلي من الفلسطيني فقبله، أخيرù، وبأية صيغة، وبأية صفة، وفي أية منزلة؟!
هل قبل الشخص ورفض الهوية؟! هل فصل بين الأرض وإنسانها؟ هل يكفيه الانقطاع بين الفلسطيني وقضيته، التي تؤكد الانتماء القومي بقدر ما يؤكد ذلك الانتماء وطنيته وحقه في أرضه؟!
هل تتسع الأرض لقومية دينية عنصرية تمارس استعلاءها باسم شعب ا” المختار والوعد الإلهي بأرض الميعاد، ولأشتات من أهل البلاد الأصليين الممنوعة عليهم قوميتهم وأديانهم ومواطنيتهم، وإلا سقطت اتفاقات »السلام« والسلطة والشرطة والانتخابات التي يفترض أن تقنن وتشرعن التصاق الضحية بجلادها.. ديموقراطيù؟
مَن حرَّر مَن؟!
هل »تحرّر« الفلسطيني حقù من عقدة الإسرائيلي، فقبله أخيرù ليس كجيش احتلال لا بد أن يجلو ذات يوم، ولا كمستوطن من جماعة »الأقدام السوداء« حسب التعبير الجزائري للمستعمر المستوطن الفرنسي، بل كسيد مطلق له القرار في المال والسياسة، الأمن والاقتصاد، المياه والزراعة، الثقافة والاعلام؟!
كانت مفاجأة تستعصي على التصديق، طالما ظللت على يقينك القديم: أن تسمع ياسر عرفات يخطب في جماهير جنين »المحررة« عبر الاذاعة الإسرائيلية، وبصوته الحي ووعوده التي تستعصي على الحياة..
بحراستهم يجيء لاستلام جنين المحررة، وعبر إذاعتهم يعد بالميلاد في بيت لحم، وفي ظل وجودهم يؤكد أن الانتخابات ستكون مثالية؟!
ولتأكيد مثاليتها ندعو المراقبين من كل أنحاء العالم ليشهدوا أن مواطننا يعرف كيف يسقط ورقة في صندوقة الاقتراع فيؤكد ديموقراطية حاكمه وعدالة مستعمره والإيمان العميق بالسلام لدى النظام العالمي الجديد.
هي دنيا أخرى، سنحتاج إلى زمن طويل لنقبلها وتقبلنا، ولا بد من أن يتغيَّر أحد الطرفين في هذه المعادلة المفارقة!
* * *
من حق المعارضة الجزائرية أن تطعن في »الشرعية الجديدة« للنظام الجزائري المكتسبة الآن بالانتخاب، طالما أنها حرمت من ممارسة السلطة التي استحقتها شرعيù وعبر صناديق الاقتراع قبل ثلاث سنوات.
يومها اتهم أهل النظام العسكري المعارضة »الإسلامية« بأنها قد أرهبت الناخبين فتركوها تفوز بأصوات الأقلية التي تمثلها لأن الأكثرية الصامتة (؟!) خافت أن تقول كلمتها،
دكتاتورية بالانتخاب؟
ديموقراطية الدكتاتور؟!
القسر هو القسر، سواء أجاء بالدبابة المسخرة لمواجهة »المبشرين بالجنة« والقائلين بأن »الإسلام هو الحل«، أم جاء بالمصاحف مرفوعة في وجه المسلمين الآخرين وكأن الدين صار حكرù لبعض المشايخ والمستشيخين يُدخلون فيه أو يُخرجون منه مَن يشاؤون!
في أي حال فإن اليمين زروال، الرئيس المنتخب الآن ولو بقوة الحراب، أمام الامتحان الأخطر: ذلك أن شرعيته لا تكتمل إلا بصوت المعارضة التي حاول الجيش استئصالها عبر بحور الدم على امتداد السنوات الماضية.
فالجيش ليس المرجع الأفضل لإعطاء الشهادات بالديموقراطية،
بالمقابل ليس التعصب مرجعية صالحة في أي أمر،
والحقيقة أن في الجزائر الآن شرعيتين مفتوحتين، ومن خلال النقص فيهما معù يمكن أن تعصف رياح الحرب الأهلية بالبلاد والعباد،
ولا بد من صيغة خلاقة لمصالحة وطنية شرطها الأول اعتراف الكل بالكل: فلا يظل الجيش محتكرù السلطة، ولا تظل المعارضة تنظيمù مسلحù يدلل على صدقية شعاراته بقدرته على أن يذبح من رجال السلطة أكثر مما يقتلون من »مجاهديه« الأبرار.
الجزائر تتسع للجميع،
والسلطة التي تتسع الآن لقوى النفوذ الفرنسي والأميركي، على تناقض المصالح بينهما، تظهر ضيقù غير مبرّر بمطالبة الجزائريين بنصيبهم منها.
لقد نجح الجيش واليمين زروال.
لكن المطلوب أن تنجح الجزائر، وأول النجاح أن تتوقف حمامات الدم فيها،
والدبابات قد تؤمِّن الفوز في الانتخابات، ولكنها ليست مصنعù متخصصù بإنتاج الديموقراطية، ولا هي الأداة الصالحة لبناء الوحدة الوطنية.
والشرعية ما تزال في مواجهة الشارع،
في انتظار أن يتحرَّر اليمين زروال من… ناخبيه الأقوياء!