طلال سلمان

دكتاتوقراطية حاكم”ينتخب”شعبة

مَن ينتخب مَن، عندما يذهب الناس إلى صناديق الاقتراع؟!
ليس السؤال أحجية أو »حزورة«، وليس الجواب بديهيù، بل إنهما معù، السؤال والجواب، يطرحان طبيعة المرحلة والتحولات التي تعيشها المنطقة العربية على عتبة نهايات القرن العشرين..
في البلاد الأخرى يذهب الناس إلى صناديق الاقتراع لاختيار حكامهم: يعطون أصواتهم لمرشحين/برامج يرون أنهم/أنها الأقرب إلى التعبير عن مصالحهم أو عن مطامحهم،
أما في الحقبة العربية الراهنة فإن موضة الانتخابات تمارس وكأنها فرصة ذهبية لأن يختار فيها الحاكم شعبه!
فحق المقارنة والمفاضلة والاختيار، بل الفرض، محصور بالحاكم وحده: له فقط أن يختار من أهل البلاد »شعبه«، مستبعدù الآخرين الذين لا يريدهم، مسقطù عنهم حقوق المواطنة.
كل من قال »لا«، أو همَّ بأن يقولها، أو أوحى بأنه قد يقولها، أو تردد في إطلاق »نعم« مدوية تضج بالنشوة والسعادة، شُطب واعتبرت ورقته لاغية ثم أدين بتهمة المقاطعة وتعطيل اللعبة الديموقراطية، وحرم بالتالي من الدخول إلى جنة الحكم والمشاركة في اقتسام غنائم السلطة!
* * *
من لبنان إلى مصر، مرورù بتونس واليمن والعراق والجزائر، مع استقراء أولي لمقدمات التجربة الفلسطينية العتيدة، تبدو القاعدة واحدة وإن تبدت في أشكال متعددة مراعاة لخصوصية كل قطر:
النظام هو الناخب و»الشعب« هو المنخوب (أو المنكوب، لا فرق..)
فالحكم يتصرف كطرف، فارضù على الناس أن يحددوا مواقفهم: من معه فعلى الرحب والسعة، ومن أبى واستكبر فإلى جهنم وبئس المصير.
لا حوار، ولا فرصة للحوار. مَن ليس معنا فهو ضدنا… ومَن هو ضدنا فليس منا، ومَن ليس منا فليس له حقوق علينا بل ليس بيننا وبينه إلا السيف!
المعارضة ترف لا تتحمله المرحلة الحرجة. والحاكم المثقل بهموم الانجاز والمحاصر بعقربي الساعة لا يطيق أن يضيع وقته في جدال عقيم حول الديموقراطية وحقوق الإنسان.
يقرّر الحاكم كل شيء لوحده: يفصل قانون الانتخابات، يقسم الدوائر، يصنِّف الناس، ويفرزهم وفق ولاءاتهم، فيمنع بالقانون كل مشتبه بإخلاصه، ويتفنن في وضع العراقيل والموانع أمام ناقصي الإيمان بقيادته الملهمة، ثم… يدعو الناس إلى ممارسة حقهم الانتخابي!
فإذا ما أراد الناس قبول التحدي الديموقراطي اكتشفوا أنهم لا يستطيعون الوصول الى صناديق الاقتراع المرصودة!
… فإذا تمكن بعضهم من الوصول بأعجوبة ورموا بأوراقهم في تلك الصناديق السحرية تبين لهم أنها بلا قعر، وأن أصواتهم قد ذهبت هباء وأخذتها الرياح الخريفية إلى »حيث ألقت رحلها أم قشعم«!!
* * *
إن الحاكم يفرض على الناس »المقاطعة« بالقانون،
فإذا ما كابروا ودخلوا التحدي بشروط الحاكم أسقطتهم الشرطة والتعديات المباشرة وعمليات التزوير المكشوفة، وفرض عليهم ان يلتزموا »المقاطعة«،
ثم بعد ذلك يوجه إليهم الحاكم تهمة الاستنكاف عن ممارسة حقهم الانتخابي وتعطيل اللعبة الديموقراطية ويوقع عليهم العقوبة المنطقية: إخراجهم من نعيم نظامه!
أي أن الحاكم لا يذهب إلى الانتخابات إلا بعدما يطمئن إلى أنه قد استأصل المعارضة تمامù، أي أنه عطل إرادة »الشعب«، ومع ذلك فهو زيادة في الحيطة يحوّل الانتخابات ذاتها إلى »معركة أخيرة« لاجتثاث المعارضين أو المختلفين معه ولو في التفاصيل،
أما المعارضة فإن هي قاطعت أدينت بالسلبية والتآمر على النظام (والسلطة الوطنية!!)، وإن هي شاركت كشفت من تبقى من قياداتها ووجوهها فسهل على النظام إسقاطهم توكيدù على »وحدانيته« في تمثيل »الشعب«.
وهكذا تتبعثر المعارضة بين مقاطِعين ومقاطَعين، أي ممنوعين من المشاركة!
ولا يتبقى غير الحاكم الممثل الشرعي والوحيد للإرادة الشعبية!
* * *
إنها الدكتاتورية بالانتخاب »الحر«!
إنها الدكتاتوقراطية!
صدق أو لا تصدق أن ثمانية عشر مليون عراقي لم يجدوا مَن هو جدير بقيادة مسيرتهم الديموقراطية إلا صدام حسين!
وتصور أن الستين مليون مصري لم يجدوا من بين مسلمي مصر جميعù أو من بين أقباطها مَن يصلح للتعبير عن إرادتهم إلا هؤلاء الذين اختارهم الحاكم منافقين ومنتفعين خصوصيين وعيّنهم في »حزبه« الديموقراطي؟!
لا معارض في مصر، بالمطلق!
إن الحاكم قد »انتخب« شعبه وصفاه واصطفاه خالصù من المعارضين!
الأخطر أن المعارضين يُقدَّمون وكأنهم بلا قضية: مجرد صراع شخصي بين الفئة ألف والفئة باء، بين وجهاء وأعيان أي طلاب سلطة!
أية انتخابات هذه التي يغيب عنها الصراع العربي الإسرائيلي بكل تداعياته وموجباته في المرحلة الراهنة من التطبيع إلى مشاريع الاجتياح الاقتصادي والهيمنة على الموارد جميعù والتحكّم بالمستقبل الى آخر ما في أحلام شمعون بيريز حول الشرق الأوسط الجديد؟!
أين القضية الاجتماعية، بينما الفوارق تمزق المجتمع إلى »تحت« غارق في وهدة الفقر السحيقة و»فوق« ملطخ بفضائح الاختلاس والنهب المنظم لموارد الدولة والتبعية المطلقة للأجنبي عمومù والاسرائيلي خاصة؟!
أين التعليم، التطبيب، الاستشفاء، الإسكان، البيئة، الزراعة، الصناعة، فرص العمل لملايين الخريجين المشردين في أربع رياح الأرض يسفحون عرق الجبين في أعمال تافهة بينما وطنهم يكاد يختنق داخل أزماته المعيشية والاجتماعية والوطنية وهم لا يملكون فرصة لأن يساهموا لا في بنائه ولا في إنقاذه؟!
* * *
لا يعني هذا أن المعارضة، حيثما كان، بلا أخطاء، وأنها أكثر ديموقراطية وأعظم قدرة على حسم المسألة الوطنية، من الحاكم…
ولكن كيف يمكن الحكم على المعارضة من قبل أن يعرفها الناس فعلاً: يعرفون برامجها، ويجربون قدرتها على مواجهة المشكلات، إن لم يكن من موقع الحاكم فمن موقع المراقبة والمحاسبة الديموقراطية؟
إن شطب المعارضة ليس تزكية للحاكم بل إن تغييبها يجعله أضعف ومطعونù في شرعيته وليس في »تمثيليته« فحسب،
ومع الاستمرار في تغييب المعارضة بفرض المقاطعة عليها أو بمنعها فعليù من المشاركة، وبحسب أوزانها الفعلية، بتياراتها المختلفة، في الشارع، سيظل الحاكم دكتاتورù متسلطù وغير شرعي مهما تعددت المؤسسات التي »ينتخبها« لتزيين ديموقراطيته: مجلس الشعب، مجلس الشورى، مجلس الوزراء، مجلس النميمة الخ..
وطالما ظل الحاكم هو مَن »ينتخب« الشعب فستظل صندوقة الاقتراع أداة تآمر على الشعب تستخدم فقط لكشف المعارضة من أجل ضربها وشطبها تمامù، وإظهار المواطن وكأنه طفل معاق لا يعرف أن يقول غير كلمة واحدة هي »نعم« لكل قادر على التسلط سواء أكان حاكمه »الوطني« أم المحتل الاسرائيلي، أم المهيمن الأميركي.
لكأنما اكتشف الحاكم وظيفة جديدة لصندوقة الاقتراع: إنها سجن جديد نظيف جدù، وبراق، يمنحه التزكية الدولية، بينما هو مطمئن إلى أن »شعبه« مجمَّد في تلك العلبة السحرية، لا يقدر على الحركة ويحاذر أن يحطم الصندوق فيتهم بالتطرف والارهاب ومعاداة الديموقراطية والنظام العالمي الجديد!

Exit mobile version