هي ذروة الترف »الديموقراطي« ان ينتظر الأميركيون ستة وثلاثين يوماً من المساجلات القانونية والمناكفات الحزبية والحساسيات الجهوية والتأثيرات شبه العنصرية والأحكام القضائية المتضاربة والمواقف الكاريكاتورية التي صارت موضع التندر على مدار الكون كله، قبل ان يعرفوا اسم رئيسهم الثالث والأربعين.
وذروة الذروة في هذا »الترف الديموقراطي« ان يجيء الرئيس الجديد، المشكوك في أهليته، مطعوناً في »شرعية« انتخابه، اذ لم يتمكن من الفوز الا بأكثرية صوت واحد في »الكلية الانتخابية«، بينما نال خصمه الأكثرية من أصوات الناخبين العاديين، كذلك فإن الأمر لم يحسم في المحكمة الدستورية العليا إلا بصوت واحد (خمسة ضد أربعة)، وبعد الرفض الجازم لإعادة الفرز اليدوي لعشرات الألوف من الأصوات في ولاية فلوريدا (وربما في غيرها بعد ذلك)..
خلال هذا الدهر من الانتظار كان على العالم ان يمارس شيئاً من »التبصير« أو التخمين أو التقدير الذاتي للتمييز ناهيك بالمفاضلة بين المرشحين المتنافسين على رئاسة أقوى دولة في الكون، اذ ليس ما يفرق فعلياً بينهما في ما يتصل ب»الخارج«، وكذلك الأمر بالنسبة للحزبين »الحاكمين« بالتناوب أو بالتداخل أو بالتماهي أو بالمشاركة المباشرة (كما سيفرض الظرف الانتخابي الراهن)، حتى ليصعب وضع تخوم جدية تفصل بين برنامجيهما الخارجيين… فالفروق، ان وجدت، ستكون في الدرجة لا في اللون، وتحديداً بالنسبة للعرب وقضاياهم التي تقزمت في »عملية التسوية«، مختزلة قضيتهم المركزية فلسطين في قوة مراقبين دوليين تنظم دوام الاحتلال الاسرائيلي ومصادرة حقوق شعبها في العودة وفي إقامة دولته على بعض أرضه وبعاصمة هي بعض القدس.
وكان يمكن للأميركيين ان يمارسوا هذا الترف لفترة أطول بكثير، واثقين من ان شيئاً لن يتقرر في غيابهم، في أي مكان من العالم… لا أوروبا الراغبة في الوحدة ستغدو أمتن وحدة، ولا روسيا المنهكة ستتخلص من أزماتها الطاحنة، ولا الصين ستتقدم لتقاسمها النفوذ والمصالح، ولا اليابان ستتمرد الخ…
ان الكون مشاع مفتوح امامها لا ينافسها عليه او فيه احد، كائناً من كان رئيسها، ولأي من حزبيها المتشابهين انتمى، وكائنة ما كانت المطاعن في العملية الانتخابية.
سقط التحدي، وبات النظام المنتصر قادراً بكل عيوبه على ان يقرر المصائر في اربع رياح الأرض، فالنظام النقيض قد اندثر من غير ان يخلف ما يمكن ان يشكل حافزاً على التطور او التطوير… وكأنه لم يكن قائماً وحاكما ومتحكما ذات يوم بأكبر امبراطورية في التاريخ!.
مع كثير او قليل من الفوارق ها هم الاسرائيليون يمارسون ترفاً مماثلاً في دلالاته التي تعني الغير، وهم واثقون تماماً ان لديهم فائضاً من الوقت لمعالجة ازماتهم السياسية والاجتماعية الضاغطة، والتي لم تضطرهم الى اي تعديل في مشروعهم القائم على الاحتلال والاستيطان الاستعماري والهيمنة على مقادير العرب ومقدراتهم والمواجهة الدموية المفتوحة مع الفلسطينيين لمنعهم من ابسط حقوقهم في أرضهم وفي »دويلة« لهم تؤكد هويتهم الوطنية وتمكنهم من الوجود خارج دائرة المنفى او القتل المنهجي المفتوح.
سقطت في اسرائيل كما في الولايات المتحدة الاميركية الفروق الوهمية او المفترضة بين الاحزاب السياسية، برغم انها في الكيان الصهيوني تتبدى في اثواب عقائدية شديدة الضيق، وانشغل الاسرائيليون بترف مناصرة المتطرف على الاكثر تطرفاً واثقين من ان »خصومهم« العرب يتفهمون ظروفهم ولن يتعجلوهم الحل، ثم إنهم سيتقبلون نتائج خيارهم »الديموقراطي« وسواء أكان بنيامين نتنياهو ام ايهود باراك ام ارييل شارون ام حتى شيمون بيريز.
ومع حالة »الترف الديموقراطي« الاسرائيلي تتجلى الفضيحة العربية مدوية: فالانتفاضة المجيدة تقدم فتية فلسطين قوافل من الشهداء، وفرق الاغتيال الاسرائيلية »تقنص« القادة الميدانيين، يومياً، والمساعدات العربية لا تصل، والقيادة الفلسطينية تدور بحثاً عن وسيط يوقف المذبحة ولو على حساب مطلب الحل النهائي، ولا من مجيب.
انعقدت القمة الاولى فهدّأت الشارع العربي من دون ان تزعج اسرائيل.
وانعقدت القمة الثانية فطيبت خواطر المسلمين من دون ان تثير اي قلق في تل أبيب على مستقبل علاقاتها في هذا العالم الاسلامي الواسع.
وما زال بيل كلينتون على الهاتف يطيب الخواطر ويتعهد بالعمل حتى آخر دقيقة من ولايته للوصول الى تسوية عادلة.
ليس امامنا الا انتظار الرئيس الاميركي الجديد، وهو انتظار سيطول شهورا، لأن »ازمتنا« المجمدة والمحاصرة نيرانها حتى لا تمتد ولا تهدد الاوضاع القائمة، ليست في قائمة أولوياته.
ثم انه سيكون على الرئيس الاميركي الجديد انتظار الرئيس الجديد للحكومة الاسرائيلية الجديدة، وهذه سيكون عليها انتظار ثقة الكنيست، وليس في الكنيست القائم اكثرية مطلقة تشكل حزب الحاكم الجديد…
لنمارس اذن ترف الانتظار.
لدينا فائض هائل من الوقت، فلماذا العجلة طالما اننا لسنا في الطريق الى اي مكان او اي هدف؟!
في هذه الاثناء لماذا لا نستعد للاحتفال بالاعياد المباركة في لبنان ببعض المواويل الطائفية المؤكدة لجلال المصادفة القدرية التي جمعت عيد الفطر السعيد مع عيد الميلاد المجيد لتكون فرحتنا شاملة؟!
هيا الى الترف الطائفي… المؤكد لوحدتنا الوطنية الصامدة!