أما وقد وصل »الصوت« اللبناني الى اعلى عليين بفضل القنوات الفضائية، فلا شك ان اخوتنا العرب في سائر اقطارهم يحسدوننا على ما نحن فيه من نعم الديموقراطية وأولها حرية الرأي والتعبير.
لعلهم يقولون: هنيئاً لهم! انهم يقولون كل ما يريدون مما تضيق به الصدور! يهاجمون رئيس الدولة، لو شاءوا، وينتقدونه مواجهة، ويرد معتذراً او مدافعاً او مكذباً سائله (وبصفته مواطناً وصاحب حق هو الآخر، في ابداء رأيه)…
ينتقدون »أغلى« رئيس حكومة عرفه لبنان، ويسفهون سياسته وخططه الاقتصادية والانمائية، ويوجهون اليه والى محيطه اتهامات قاسية!..
يهاجمون رئيس المجلس النيابي وعصبته و»جماعته« في السلطة والادارة!
يهاجمون الوزراء الثوابت ويشككون في ذممهم المالية ونظافة ايديهم ناهيك بكفاءاتهم او سيطرتهم على موظفيهم المؤتمنين على المال العام او المصالح العامة!.
ولعل بعضهم يضيف متحسراً: مع ذلك فلا احد من موجهي الاتهامات ينتهي في السجن، او تختفي آثاره، او يساق الى المحكمة.. ما أسعد حظ اخوتنا الذين ولدوا في مرقد العنزة الشهير باسم لبنان!!
ما لا يعرفه اخواننا العرب ان الكلام في لبنان يدور حول ذاته وينتهي هباء منثوراً… هي شقشقة لسان، لا أكثر!
وما نعرفه، نحن المتنعمين بثمار الديموقراطية الشهية، أن الحوار في بلدنا الكلمنجي مفقود، وان الالفاظ فقدت دلالاتها، وان الاتهامات على خطورتها لا تعرف طريقها الى الجهة الصالحة للبت فيها: أهي ظالمة فيقاضى مطلقها، ام هي صادقة ودقيقة فيعاقب الجاني او الفاعل، مرتشياً كان ام مرتكباً ام مستغلا لنفوذه ام مسيئاً استخدام السلطة؟!
وخلال اسبوع الكلام المفتوح، مباشرة على الهواء، سمع اللبنانيون ومعهم فضائياً اخوانهم العرب، المطالعات »الجنائية« التالية:
1 اتهم رئيس الجمهورية شعبه بالكسل وقلة الهمة، ودستور بلاده بنقص يضر بمبدأ العدالة والتوازن الوطني، والادارة الحكومية بالفساد، والسياسيين ومنهم النواب والوزراء بالتستر على الغش والتزوير وإفساد الموظفين الصالحين، والنظام التعليمي بالتخلف والبؤس، والجامعات بتخريج عاطلين عن العمل، والاعلام وبالتحديد المرئي والمسموع بأنه قد بات، وبالقانون، احتكاراً لمجموعة من المتمولين (معظمهم يجلس الى جانبه في لقاءات الترويكا او في جلسات مجلس الوزراء او في اللقاءات الحميمة..)
2 اشترك رئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة وبعض الوزراء السياسيين في توجيه اقسى الاتهامات الى الادارة الحكومية، وطالبوا »برفع يد السياسيين عن الادارة«… علماً بأن المذكورين اعلاه قد عينوا نسبة كبرى من اركان هذه الادارة، وامتنعوا عن محاسبة القسم الآخر من اولئك الاركان الذين كانوا محسوبين على »السابقين« ولم يجدوا صعوبة في الانتقال بولائهم الى »الحاليين« من اصحاب السلطة وقد قبلهم هؤلاء على الرحب والسعة وطمأنوا الخائف منهم واستغلوا حاجة المرتكب الى الحماية فحموه واستبقوه و»شغلوه« لحسابهم!
3 اشترك رئيس الجمهورية ورئيس المجلس ورئيس الحكومة وبعض الوزراء مع قيادات المعارضة في »توصيف« الأزمة الاجتماعية، والتحذير من مخاطر تفاقمها، وفي الاشارة الى سبل العلاج وضرورة اعتمادها فورا وبغير إبطاء في المجالات كافة: التعليم، الطبابة والاستشفاء، السكن، النقل، وخدمات الهاتف والكهرباء والطرقات الدائرية والمستقيمة الخ..
الكل يقول، مع اختلاف في درجة الفصاحة، الكلام ذاته، مطمئنا (في ما يخص الحكم) أو يائسا (في ما يخص المعارضة) بأن الحكي سيظل مجرد حكي لا أكثر!
وعلى وجاهة الطرح الرصين، والتوصيف الدقيق للأزمة التي تعصف اليوم باللبنانيين، في حياتهم السياسية، كما في أسباب عيشهم وتكاليف هذا العيش، كما تولاها بكفاءة قياديون محترمون في طليعتهم الرئيس سليم الحص، فإن المواطن العادي قد هز رأسه بألم وهو يسمع »تشخيص« حالته التي لن ينظر فيها أحد ولن يوفر لها العلاج اي من الأطباء »المشرفين« عليه!
لا حوار في لبنان، بل مجموعة من الأصوات الفردية تنطلق بالتوازي فلا تلتقي ولو في سجال، وإذا ما تلاقت فليست على الحل بل على محاولة إثبات التهمة على القائم بالأمر أو تنصله منها ورده الى سابقيه!
لا حوار لأن لا حياة سياسية في البلد،
ولا حياة سياسية لأن لا قوى سياسية: لا أحزاب ولا تيارات ولا برامج يلتقي، من حولها أصحاب المصلحة بالاصلاح (حتى لا نقول بالتغيير) ويوفرون عبر إثبات صدقيتهم في طرحها وقدرتهم على تنفيذها، لو آلت إليهم السلطة، »البديل« المفتقد لهذا الحكم الذي يباهي خصومه ويحرج مواطنيه بأن لا بديل منه، وبأن غيابه أو تخليه عن السلطة يعني… الطوفان!
كثير من الكلام، ولا حوار،
كثير من الأرقام ولا حقيقة ثابتة،
كثير من الفضائح والصفقات المريبة والأموال المنهوبة، ولا جناة يمثلون أمام القضاء فيحاكمون ويحكمون ليكونوا عبرة لمن يعتبر،
كل مسؤول متهم ولا حساب،
كل موظف مدان من قبل المساءلة.
والمواطن شريك في اللعبة: يصفق لمن يعترف انه راش، ويصفق لمن يقر بأنه مرتش، ويهتف لمن »يشفط« مليارات أكثر من المال العام!
عاشت ديموقراطية الكلام!
عاشت دولة الفساد والصفقات والفضائح وقتل شاهد الاثبات الوحيد!
عاش الشعب »المفسود«،
عشتم وعاش لبنان!