لكل لبناني ديموقراطيته، يفصِّلها بمزاجه وعلى مقاسه ويدعو الآخرين إليها شرط الانضواء تحت لوائه والاقرار بزعامته… ديموقراطيù!
تكفي مراجعة سريعة لتصريحات اقطاب الحكم والمعارضة لتكتشف كم هي متعددة ومتنوعة اصناف الديموقراطيات اللبنانية…
حتى بين أطراف الترويكا تتباين تحديدات الديموقراطية كما تتعارض وسائل تطبيقها ابتداء من قانون الانتخاب الى التقسيمات الادارية وانتهاء بمناهج تحقيق الانماء المتوازن،
ديموقراطية الرئيس الياس الهراوي، مثلاً، تتذبذب بين مطلبه المضمر بتعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية، وبالمقابل الحد من »اوتوقراطية« الوزراء وجماعية مجلس الوزراء لا سيما حين يختصر ذاته بشخص رئيسه، وبين رغبته بتحسين صورته وعهده لدى جمهور »المحبطين« من الموارنة خاصة والمسيحيين عمومù.
بالمقابل فإن ديموقراطية الرئيس نبيه بري تمتد ما بين »المجلسية« الى القول بلبنان دائرة انتخابية واحدة استنادù الى شعور بالاستقواء يعبر عن نفسه احيانù بشعار »الديموقراطية العددية«، وان كان يستهدف في النهاية الحفاظ على وضعيته المميزة بدمج المحافظتين الجنوبيتين وكافة رموزهما وأقطابهما وعائلاتهما في لائحة واحدة تجعله آليا رئيس اكبر كتلة نيابية، واستطرادù الرئيس الدائم لمجلس النواب،
اما الرئيس رفيق الحريري فهو يحاول استيلاد ديموقراطية جديدة سندها الاساسي اقتصادي وجمهورها عموم المتضررين من النتائج السياسية للحرب الحروب الاهلية العربية الدولية التي شهدها لبنان، ومعهم عموم المرشحين للافادة من السلم الاهلي المفتوح على احتمالات »السلام الاقليمي« وشعاراته البراقة عن الازدهار الآتي مع ولادة الشرق الاوسط الجديد!
ومن موقع الحليف السياسي بالاضطرار، يحاول وليد جنبلاط ان يزاوج بين نوع الديموقراطية التي يحتاجها للحفاظ على مكانته ودوره وبين المناخ الجديد الذي تشيعه حركة الرئيس الحريري والذي يخلخل كثيرù من مرتكزات الحياة السياسية التقليدية سواء تلك التي كانت سائدة قبل الحرب، او التي استولدتها الحرب ذاتها وفرضتها على »جمهورية الطائف«.
وفي حين لا تلعب بيروت، المدينة الرمز، دورù كبيرù في »ديموقراطية« الرئيسين الهراوي وبري، فإنها اساسية جدù في مشروعي كل من الحريري وجنبلاط،
كذلك ففي حين يركز الهراوي وبري حملاتهما على قيادات ما قبل الحرب، فإن الحريري وجنبلاط يهتمان اكثر بقيادات ما بعد الحرب او القوى التي اعطيت مكانة استثنائية في جمهورية 13 تشرين، وبالتحديد منها الجيش كمؤسسة مؤهلة من حيث المبدأ للعب دور سياسي بعدما تبدلت وظيفتها تمامù عما كانت عليه قبل او خلال الحرب الاهلية ولا سيما في الفترة الانتقالية التي صادرها العماد ميشال عون.
لكن الديموقراطية المدينية التي يقول بها رفيق الحريري ومشروعاته الاقتصادية العديدة، ليست هي هي الديموقراطية المدنية (نقيض العسكرية) التي يقول بها جنبلاط مراعيù فيها حساسيات مذهبية معروفة تستشعر خطرù على الوجود كلما اقتحمت المسرح السياسي قوة جديدة من خارج الميزان الدقيق للتوازنات الطائفية اللبنانية، وسواء أكانت هذه القوة طائفية مموهة بالسياسة (الشيعة، حركة »أمل«، و»حزب ا”«) او عسكرية ترتبط بالمشروع السياسي الجديد للبلاد وليس كملحق للقيادة السياسية (الجيش).
هناك ايضù الديموقراطية التي ينادي بها »المحبطون«، سواء بلسان البطريرك الماروني، والتي تقول بالعدالة والانصاف ورفع الغبن تمهيدù لاعادة نظر شاملة في تطبيقات الطائف تعيد الوضع الى ما كان عليه قبل الحرب، فإذا تعذر فالى اعادة صياغة التوازن الداخلي بما يستنقذ من الامتيازات القديمة ما هو صالح (او ربما ضروري) لعهد ما بعد انجاز العملية السلمية وما قبل »الشرق الاوسط الجديد«،
ولقد تبدت هذه الدعوة الآن في افضل تجلياتها عبر الشعارات التي رفعت خلال مناقشات السينودس حول لبنان، المتواصلة جلساته في رحاب الفاتيكان، خصوصù وقد استعيدت في سياقها جملة الاعتراضات »المسيحية« على الطائف، نصا وتطبيقù، وعلى »جمهوريته« بمؤسساتها القائمة او التي يفترض ان تجدد نفسها عبر الانتخابات المقبلة،
وبديهي ان كل تلك المناقشات التي تنطلق من واقع الطائفة او الطوائف المسيحية (مع تمييز دائم للموارنة) وتنتهي بها، قد استندت على خطاب ديموقراطي او هي افترضت انها انما تطالب بتعزيز الديموقراطية في الجمهورية الطوائفية: لبنان.
اذن، فثمة صراع »ديموقراطي« مفتوح بين الطوائف وقياداتها القديمة والجديدة على نمط الديموقراطية الجديد المطلوب للبنان والمحقق للمطامح جميعù
في هذه المتاهة من الجدل »السياسي« من البديهي ان تتعطل »اللعبة السياسية«، وان تختفي الاحزاب وبرامجها وشعاراتها ومطامحها الى التغيير او الى الصراع الديموقراطي،
فالطوائف داخل السياسة، حكمù، لكن السياسة ليست دائمù داخل الطوائف، او انها ليست ذات دور فاعل في توجهاتها،
ثم ان الحدود غير واضحة تمامù بين الطوائف والسياسات، وليس من مصلحة اي طرف ان يحددها ويضع لها التخوم،
وهكذا يتواصل العرض الفولكلوري اللبناني: الشعارات جميلة جدù والحركة على الارض منفصلة كلياً عن الشعار الذي لا تنتهي ضرورته السياسية إلا بعد انجاز الهدف المناقض للشعار كلياً.
هل اخترت ديموقراطيتك الخاصة، ام انك خارج النظام؟!