لن يصبح عبد العزيز بوتفليقة »الرئيس الشرعي« لجمهورية الجزائر الشعبية والديموقراطية بمجرد إقرار انتخابه من المجلس الدستوري، أو بمجرد إتمام عملية التسلّم والتسليم بينه وبين سلفه الذي »هرب« من الرئاسة قبل انتهاء ولايته، الأمين زروال.
ستعترف الدول، لا سيما العربية منها، وهي قد اعترفت به وأبرق ملوكها ورؤساؤها مهنئين، متجاوزين عن ملابسات الانتخاب، خصوصاً أن أكثريتهم الساحقة تحتل مقاعدها بالوراثة أو بالانقلاب العسكري.
وستعترف به رئيساً، كل دول العالم الثالث ومعظم الغرب، حتى لو أبدت بعض العواصم الكبرى »ملاحظات« على »ديموقراطية« العملية الانتخابية ملمحة إلى أن »سلطة العسكر« هي التي فرضت بوتفليقة لأنه مرشحها أو »رجلها المدني« المؤهل لأن يغطي هيمنتها الفعلية على الحكم في هذه البلاد الغارقة في دمائها نتيجة الخلل في رأس السلطة حيث يحكم عملياً طرف شبح وغير مسؤول بينما تُساءل »الصورة« الرسمية لرئيس لا يملك من الأمر شيئا.
لكن عبد العزيز بوتفليقة، بغض النظر عن كيفية وصوله، أقوى من أن يكون مجرد صورة، أو مجرد واجهة مدنية للحكم العسكري الذي أطل على الجزائر بالانقلاب الأول الذي قاده الراحل هواري بومدين في العام 1965، ثم اتخذ من رحيله مبرراً للاستمرار في ممارسة السلطة من خلف واجهة يتصدّرها عسكري ضعيف بملابس مدنية.
فلا يمكن اتهام عبد العزيز بوتفليقة بالنقص في الخبرة أو في الشجاعة أو في الوطنية، مع كل التحفظات التي يمكن أن تسجل وهي قد سُجلت على ما رافق عملية انتخابه رئيساً سابعاً لجمهورية يحمل اسمها الرسمي الطموح لأن تكون »ديموقراطية«، وهي نعمة لم يتم لشعبها أن يتمتع بها كثيراً في ظل الرجال الذين أخذوا الحكم فيها باسم الثورة دائماً، وعلى حساب الثورة وأحلام الثوار غالباً.
كذلك لا يمكن اتهام عبد العزيز بوتفليقة بالجهل أو بالغباء أو بنقص المعرفة في كيف تُدار شؤون الجزائر، وأي جحيم يعيش فيه شعبها على شفا الحرب الأهلية، ومَن هم المسؤولون عن هذا الوضع الذي يتجاوز المأساة الى الجريمة المدبرة.
من هنا يمكن الافتراض أنه سيكون على عبد العزيز بوتفليقة ان يبدأ معركته من عند عتبة القصر الجمهوري، وأنه سيواجه امتحانا قاسيا وهو داخل القصر لإثبات أنه الرئيس الشرعي ومركز القرار، وأن عصر حكم الأشباح قد انتهى.
لا يمكن التعايش بين سلطتين في مساحة ضيقة كرئاسة الجمهورية.
وبرغم المطاعن الكثيرة التي شهرها منافسو بوتفليقة في وجهه حول »شرعية« انتخابه، وصحة الأصوات التي نالها، ودور السلطة القائمة بالأمر الآن، أي العسكر، في تأمين الفوز له بأكثرية مقبولة من أصوات الناخبين، فإن عبد العزيز بوتفليقة يستطيع من خلال الممارسة، أن ينهي الجدل وينتزع لنفسه »الشرعية السياسية« إذا ما استطاع الشروع في مصالحة وطنية بين النظام وأبنائه المطرودين منه أو الخارجين عليه.
لقد نجح بوتفليقة في الامتحان الأول، وهو أسهل نسبياً وبما لا يقاس، من الامتحان الفعلي: استعادة الرئاسة (والجمهورية) من مختطفيها.
فالكل يعرف أن »الناخبين الكبار« لم يكونوا موجودين داخل الجمهور الجزائري الذي توجه أو وُجِّه إلى صناديق الاقتراع.
والسؤال الآن: هل يستطيع بوتفليقة مواجهة »الناخبين الكبار« والكبار لدرجة أنهم يلغون من عداهم، فيتخلص من أسرهم، مستعيناً بالناخبين الطبيعيين، بمن فيهم أولئك الذين أعطوا أصواتهم لغيره من المرشحين المنسحبين، أو لم يعطوها لأحد لعدم إيمانهم بجدوى العملية الانتخابية من أساسها؟!
وهل يستطيع بوتفليقة تخطي حواجز الخصومة مع الذين كان يفترض أن ينافسوه فحرموه بانسحابهم الكثير من شرعيته التي لا بد له من أن يستعيدها معهم وعبرهم وليس منهم، وبإلغائهم، وأن يؤكدها بهم بدلاً من أن يفقدها على أيدي من يفترضون أنهم هم الذين أوصلوه ورأسوه ليستمروا حكاماً، ولو فوق تلة من الضحايا المقطعة أيديهم والرؤوس؟!
إن معركة بوتفليقة الأولى والأخطر مع الذين يفترضون أنهم أصحاب الفضل في رئاسته…
فهل يستطيع أن يفتح أبواب القصر أمام الشمس والهواء وجراح الجزائريين، وأن يلغي الحرم المفروض على القوى الحقيقية في البلاد، إسلامية أساساً أو أحزاباً بشكل عام، فيباشر معها حواراً جدياً بنده الأول الاعتراف بتمثيلها لشرائح عريضة وعريضة جداً من مجتمعها.
إن شرعية بوتفليقة الفعلية ستظل معلقة حتى ينجح في نيلها من هؤلاء الذين لم ينتخبوه لأنهم رفضوا أن يقولوا »نعم لحكم العسكر«.
ومثل هذه الشرعية تفترض في بوتفليقة أن يقود انقلاباً مدنياً لخلع العسكر من فوق قمة السلطة التي اغتصبوها.
وحتى ذلك اليوم سيبقى بوتفليقة رئيساً بالأمر الواقع بينما السلطة في دهاليز القصر خلفه والشرعية في الشارع الذي يجتاحه طوفان الغلط فيملأه بالجثث والدماء وأحلام الجزائريين المنذورين للشهادة اليوم بأكثر مما كانوا خلال ثورتهم ضد المستعمِر القديم.