طلال سلمان

بشار اسد ظل عالي لحافظ اسد سنة اولى من غياب سنة اولى من تحدي

اجتاز بشار الأسد امتحان السنة الأولى من زمن الصعوبة بنجاح لعله »أقل« مما يريد لكنه »أكثر« مما تمنى له »الأخوة الأعداء« في العواصم العربية القريبة، و»الخصوم« الأقوياء في بعض مراكز القرار الدولي.
لم يتعثر هذا الطبيب الشاب الذي فُرضت عليه السياسة والقيادة، ولم يرتبك ولم يصطدم بالظل العالي لقائده ورئيسه ووالده حافظ الأسد، الذي خلفه بالاضطرار أكثر مما بالرغبة، وهو الذي كان يصعب تخيّل غيابه عن موقعه، وخصوصاً أنه كان قد دمغ مرحلة كاملة من عمر سوريا والمنطقة العربية والسياسة الدولية تجاهها، فضلاً عن الصراع العربي الإسرائيلي بطابعه الشخصي المميّز فكان مدرسة سياسية كاملة في رجل فرد.
كان بشار الأسد حافظ الأسد حيث توجب أن يكونه، ولم يكنه حيث وجد ضرورياً أن يميّز نفسه بقدر من الإضافة تؤكد ذاته وأنه ليس مجرد امتداد للغائب. الامتداد يستهلك المثال والمتمثل. هو »الإبن«، لكنه كيان مكتمل، له رؤيته الخاصة من داخل النهج الموروث وله معاييره الخاصة، التي تستجيب لما ترتب على »الغياب« من نتائج، ثم أن أمامه ظروفاً مختلفة يزيد من حراجتها المنافسة المفتوحة دائماً مع السلف الكبير الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.
لعله قد بدأ من نقطة أكثر تقدماً باعتباره ابن حافظ الأسد بينما لم يكن والد حافظ الأسد مثاله في السياسة والحكم… على أن هذا يشكل تحدياً إضافياً، ففي كل لحظة، وفي كل تصرف، وفي كل مسلك، وفي كل قول، ستتم مقارنة الإبن بالأب الذي طبع مرحلة كاملة من عمر المنطقة امتدت لثلاثين سنة أو يزيد بطابعه الخاص والمميز.
هل أصعب من أن يكون الأب هو المثال وهو التحدي؟! أن تكون مطالباً بأن تحفظه وتتجاوزه في الوقت عينه.. بأن تحمي صورته في الإنجاز وأن تمضي بعيداً عنه نحو آفاق لم تتح له تجربته الخاصة على غناها أن يرتادها، ولا ثقافته الخاصة أن يستشرفها، وخصوصاً أن الثورات العلمية المتلاحقة في مجال الاتصال والمواصلات، والتطورات المتلاحقة في منظومة العلاقات الدولية، لا سيما في التجارة وسائر المجالات الاقتصادية قد خلقت عالماً جديداً مختلفاً أشد الاختلاف عن.. عالم القرن العشرين!
هي سنة واحدة فقط، لكن العالم اليوم ليس هو عالم العام ألفين!
حتى لو أرجأنا الحديث عن اتفاق التجارة الدولية والحدود المفتوحة وسائر ما تحمله رياح »العولمة« فإن ثمة تطورات سياسية بدلت خريطة الاهتمامات والأولويات في هذه المنطقة التي تعيش في قلب العواصف والتي تتزايد عليها أثقال المهمات المطالبة بإنجازها بينما تتناقص قدراتها بوتيرة تصاعدية نتيجة لظروف بعضها موضوعي ومعظمها يتصل بأشخاص حكامها وطبائعهم وقدراتهم ومدى إيمانهم بأنفسهم وبأمتهم!
يكفي، على سبيل المثال، أن نستذكر أن»أميركا بوش« هي غير »أميركا كلينتون«، وأن »إسرائيل شارون« هي غير »إسرائيل باراك«، وأن ما كان يسمى »العملية السلمية« حتى الأمس القريب لم يعد ثمة ما يبرر لها »التسمية«، فلا هي »عملية« ولا »السلام« احتمال جدي وممكن وقائم بعد، على الأقل بالمفهوم الذي كان له حتى ذلك الاجتماع الأبتر قبل خمسة عشر شهرا بين الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون والرئيس السوري الراحل حافظ الأسد. ألا يبدو اليوم، وكأن ذلك الاجتماع كان رصاصة الرحمة الأميركية الإسرائيلية على ما كان يسمى »العملية السلمية«؟!
… ولولا انتفاضة فلسطين المباركة لكان غياب حافظ الأسد قد أفسح المجال لانهيارات مريعة في الصف العربي زادته سوءاً على سوء وعجزاً على عجز ومكّنت لإسرائيل في المزيد من الاختراقات.
ثم إن الانتفاضة بذاتها هي تعبير عن الصعوبة في أعلى ذراها.. فهي تضخ، عبر سيل الشهداء، رصيداً عظيماً للصامدين، ولكن مَن تراه يضخ لها مقومات الصمود وضرورات تحقيق النصر على الاحتلال وقد تمادى في وحشيته إلى حد استخدام المقاتلات الحربية الأميركية أف 16 في مواجهة حجارة أطفال الانتفاضة؟!
ألا يتبدى، في لحظات، وكأن السلاطين العرب أعظم خوفاً من إسرائيل إذا ما تواصلت الانتفاضة فكسرت النمط السائد في »التعامل« مع الاحتلال الاستيطاني، بدءاً بالاتفاقات المنفردة وصولاً إلى المبادرات المشتركة والتي تكاد ترجع بالنضال الوطني الفلسطيني المشرِّف إلى خانة »المطالب النقابية« ولو تحت لافتة »حقوق الإنسان« وتقرير لجنة ميتشل الذي يتبدى اليوم وكأنه خشبة الخلاص الوحيدة من حمام الدم وخطر الترحيل الجماعي وتدمير »السلطة« وسائر ما يتهدد الفلسطينيين وحقهم في أرضهم، فضلاً عن الاستقلال والدولة؟!
ألم تكشف الانتفاضة أن القمم العربية، طارئة أو عادية، وكذلك القمم الإسلامية، مجرد تلاقٍ بالإجماع على الإقرار بالعجز، ومحاولة تثبيت لأركان الهزيمة وسد الطريق أمام الجماهير المخذولة والمصادَر قرارها والممنوعة من المشاركة في تقرير حاضرها ومستقبلها، وبقوة السلاح إذا اقتضى الأمر، وها »البشائر« قد أطلت في أكثر من قطر عربي؟!
ألم يظهر بشار الأسد في هذه القمم وكأنه الصوت الصارخ في البرية، والوافد من خارج النادي، المخالف والمختلف، الطارئ بتطرفه والمحرِج بصراحته، والخارج على أصول مخاطبة السلاطين، والمعلن تمرده على »القوة القاهرة« التي تفرض الاستسلام للهزيمة وكأنها قدر لا يرد؟!
ألم يؤخذ عليه »تطرفه« وخروجه على »اللياقة« وعلى آداب الحديث في حضرة أولي الأمر، وتسبّبه في إحراج الجميع أمام »جماهيرهم« في الداخل كما أمام »سيد« الداخل والخارج؟!
* * *
هي سنة طويلة وثقيلة الوطأة بأحزانها ومهماتها الثقيلة ومحاولات الاستكشاف والامتحانات التي أُجريت »للخلف الشاب« عن بُعد كما عن قُرب، لتحديد مدى التطابق أو الافتراق عن أبيه الذي كان يلغي غيابه القمم بقدر ما يفرض حضوره المقاربة الجدية للمهمات المطروحة على هؤلاء القادة الميالين إلى الراحة وترك الأمر لولي الأمر يقرر فيه ما يشاء وليس عليهم إلا التنفيذ..
ومؤكد أن بشار الأسد ما زال يتقلّب فوق المركب الخشن الذي فرضت عليه الظروف أن يعتليه في لحظة مصيرية متحملاً عبء مصاعب هائلة على المستويات كافة، السياسية والاقتصادية، العسكرية والاجتماعية، العلمية والثقافية، المحلية والعربية والدولية، يحاول أن يتبيّن ما لا يجوز التفريط به من التجربة الغنية، وما يتوجب إعادة النظر فيه أو تجاوز ما كان إلى ما ينبغي أن يكون.
ولعل لبنان، المقاومة والنصر، والاعتلال السياسي والاقتصادي، والارتباك الاجتماعي الثقافي، والاختلال في العلاقة بين »الشعب الواحد في دولتين«، هو على رأس قائمة امتحان زمن الصعوبة أمام الرئيس بشار الأسد، وخصوصا أن الخطر الإسرائيلي ما زال يتهدده متخذاً منه ساحة مواجهة محتملة مع هذا القائد الشاب الذي يحاول أن يؤكد نهج حافظ الأسد ولو بتجاوزه أحياناً.
ذلك أن لبنان كان أحد عناوين نجاح حافظ الأسد في سوريا وفي المنطقة، وأحد مصادر التسليم بكفاءته في تحويل بلاده من ورقة إلى لاعب كبير، بل ربما اللاعب الأكبر في هذه المنطقة الفائقة الأهمية للغير، والتي نادراً ما يستثمر قادتها إمكاناتها الغنية وموقعها الذي لا بديل منه ودورها التاريخي الذي لا يستغنى عنه إلا إذا ألغاه أصحابها.
* * *
مع الذكرى الأولى لغياب القائد العظيم: تحية لحافظ الأسد،
مع أطيب التمنيات للدكتور بشار الأسد في أن ينجح في التحدي الكبير الذي فرضه عليه أبوه مرتين: مرة بحضوره القوي ومرة بغيابه المدوي.
حمى الله سوريا. حمى الله لبنان. حمى الله الانتفاضة في المباركة فلسطين. حمى الله العرب!

Exit mobile version