تزدحم نهاية العام 2000 بالبدايات المؤثرة والموحية بتنامي القدرة العربية على تعديل ما كان يهدد بفرضه العدو الإسرائيلي كقدر لا يقدر أحد على رده أو حصر تداعياته المدمرة.
فبرغم كل مظاهر الضعف والهشاشة في الوضع العربي بعامة فإن ثمة نقاط ضوء تبث شيئا من الأمل، وتفتح الباب لبدايات جديدة خصوصا وأنها تسقط بعضا من جدار الظلمة واليأس الذي كان قد ارتفع كثيرا فصار حاجزا يسد الطريق إلى مستقبل مختلف عن الواقع البائس.
ومن غير الإغراق في تفاؤل غيبي ساذج يمكن رصد التحولات التالية:
في ما يخص »مركز« الصراع العربي الإسرائيلي فإن الصمود السوري المعزز بانتصار لبنان المقاوم في تحرير أرضه من الاحتلال الإسرائيلي، ثم انتفاضة الأقصى في المباركة فلسطين، يمكن اعتبارها معا المصادر الأساسية للأمل، لا سيما إذا ما أضيفت إليها نتائجها المباشرة على إسرائيل كما تعكسها أزمتها السياسية الحادة.
ان إسرائيل التي طالما تبدت بصورة القاهر الجبار والذي لا يقاوم تظهر الآن عاجزة عن التقدم في اتجاه التسوية بينما تمنعها ظروف انقسامها، إضافة إلى معطيات الوضع الدولي عن الاندفاع في مغامرة حربية جديدة وإن لم تمنعها عن الإيغال في إراقة دماء المزيد من الفتية البواسل على أرض فلسطين.
ولا بد من الاعتراف، بداية، بأن مركز الصمود العربي في دمشق والذي بدا مهددا بالغياب المبكر للرئيس السوري حافظ الأسد، قد ظل على تماسكه، بل لعله قد ازداد صلابة مع تولي الدكتور بشار الأسد مهام القيادة بزخم الشباب فيه واستنارته بالتجربة الغنية لوالده الراحل والتي أحلته في موقعه المميز في التاريخ ليس فقط لأنه لم يفرط بالأرض ولم يساوم على الحق ولم يوقع على اتفاق إذعان، بل أساسا لأنه عرف كيف يدير الصراع وكيف يقرأ التحولات وكيف يحول سوريا من »ملعب« الى لاعب أساسي بل إلى اللاعب الأساسي في هذه المنطقة الحساسة على امتداد أعوام طويلة وحافلة بالأحداث الجسام.
وعلى طريق أبيه فإن بشار الأسد يتحرك الى الأمام، ربما بشيء من البطء ولكن بخطوات ثابتة ومتوالية، وربما بشيء من الحذر، وهو ضروري، ولكن من دون خوف، وبكثير من الشجاعة الأدبية ولكن من دون استفزاز.
وإذا كان من حق لبنان المقاوم أن يعتبر نفسه صاحب دور معنوي، ومن باب القدوة، في انتفاضة الأقصى، خصوصا وأن مجاهديه بل شعبه جميعا ومعه الحكم فيه قد وفر القدوة، فإن من حق سوريا ان نحفظ لها انها قد حمت هذه المقاومة الباسلة ووفرت لها الدعم السياسي والمادي، وانها بالتالي قد وفرت حماية معنوية وسياسية للانتفاضة في فلسطين، متحملة هنا وهناك الضغوط الثقيلة التي بلغت في حالات كثيرة مستوى التهديد المباشر »بتأديبها« مع الايحاء بنموذج العراق وما أصابه لإرهابها.
وفي هذا المجال أثبت الدكتور بشار الأسد صدقه في ما يردده من انه »اذا كان الاسرائيليون ومن معهم يفترضون انني، نتيجة لثقل المهمة التي ألقيت على عاتقي، وفي سن مبكرة، سأكون أكثر تساهلا وأقل تشددا من حافظ الأسد، فردي انهم يرتكبون خطأ جسيما… وببساطة فإنني أريد كل ما كان يطلبه حافظ الأسد ومعه شبر زيادة، فالأرض هي الأصل ومن يفرط بها لن يكون قادرا على حماية شرف الحكم وجدارته به«.
الآن يفرض على سوريا ومعها لبنان تحد جديد،
إن القيادة الفلسطينية التي لم تكن تستشير احدا في سابق اتصالاتها ومفاوضاتها مع الاسرائيليين مباشرة او عبر الاميركيين، تريد ان تلقي الآن على غيرها مسؤولية رفض المقترحات الجديدة القديمة التي قدمها الرئيس الاميركي بيل كلينتون، ولذا فقد طلبت اجتماعا طارئا للجنة المتابعة المنبثقة عن القمة العربية، والتي تضم سوريا ولبنان معا، لكي تقول كلمتها في هذا »العرض« الذي لم يتغير الكثير في مضمونه عن ذاك الذي قدم اليها في »كامب ديفيد 2« برغم الاربعمائة شهيد أو يزيد والعشرة آلاف جريح أو يزيد وبرغم الانجازات السياسية المهمة للانتفاضة على المستوى العربي والدولي.
وبغض النظر عن ان سوريا ولبنان لن يتحرجا عن رفض ما رفضه شعب فلسطين، خصوصا وانهما معنيان مباشرة بمصير الفلسطينيين سواء داخل أرضهم او في ديار اللجوء (ومنها سوريا ولبنان) او في الشتات، الا ان ندبها لمثل هذا الدور يشكل مناورة رخيصة في مسألة جدية الى درجة الخطورة.
في أي حال لن تكون هذه المواجهة الاولى للرئيس السوري مع قوى الضغط على موقف الصمود العربي لتفكيكه أو اضعافه، وهي لن تكون بالتأكيد الاخيرة،
كذلك فهي لن تشكل »خروجا على النص« بالنسبة للبنان الذي حرمته عوامل كثيرة، بعضها داخلي وجلها خارجي، من ان يعيش فرحة تحرره من الاحتلال الاسرائيلي،
المهم ان يفيد شعب فلسطين من هذا الصمود بما يوازي كلفته، وألا يتم التفريط بالدم وبحصيلة الصمود السياسي كما المقاومة بالسلاح في المعركة التي تبقى واحدة مهما تزايدت المحاولات للايهام بأن لا خير لطرف فيها الا على حساب رفاق سلاحه.
وتجربة لبنان مع سوريا تقدم شهادة ناصعة بأن الصمود هو أقصر طريق للتحرير بينما تواقيع الإذعان هي أقصر طريق الى جهنم.