طلال سلمان

بشار اسد »المواطن« مكاشفة مطلقة الا مع حساسيات لبنانية

يكتسب الرئيس السوري بشار الأسد بعض مزاياه من اختلافه عن الصورة التقليدية للحاكم العربي الذي يعتصم بحبل الصمت، ملتزماً بالحكم الشهيرة مثل »لسانك حصانك إن صنته صانك«، أو »تكلم كثيراً حتى لا تقول شيئاً«، أو »الصمت زين«.
ولقد تعوّد المواطن العربي على نوعين من الحكام: النوع الأول الذي يجد منجاته في السكوت الذي من ذهب يستقبل أقرانه أو زواره الأجانب فلا يقول شيئاً مكتفياً بالصورة الجامدة محيلاً الناس إلى استشفاف الملامح.
أما النوع الثاني فهو الذي يملأ الفضائيات والأرضيات والصحف بخطبه وتصريحاته المطولة التي لا تقول شيئاً، ولا تحدد موقفاً من أي أمر، وتزيد من يأس الناس الذين يتجهون مرة أخرى إلى المصادر الأجنبية، بما فيها الإسرائيلية لكي يعرفوا منها ما أخفاه حاكمهم عنهم، مع وعيهم باحتمال التحريف بالحذف أو بالإضافة، بما يناسب أغراص »المصدر«.
كذلك تعوّد المواطن العربي أن يسمع ما يفرحه ثم يرى ويلمس ويعرف ما يسوؤه، وما يزيد من يأسه من حكامه… وطالما أنه عاجز عن تغييرهم أو إجبارهم على أن يتغيّروا، فإن يأسه من نفسه يتفاقم بحيث ينزوي وينطوي على ذاته مسلماً بالقدر الأميركي الإسرائيلي وقد وجد »غطاءه« المحلي في شخص حاكمه الذي ينافقه علناً ثم يخفي عنه حقائق حياته في يومه وغده.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن ما سمعه المواطن من الملوك والرؤساء العرب حول الاحتلال الأميركي للعراق جعله يقطع الشك باليقين فيعتبر أن معظمهم إما متواطئ، من قبل الغزو ومن بعده، وإما أنه شيطان أخرس.
أما حول فلسطين وما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي فيها من حرب إبادة تستهدف شعبها ومدنها وقراها، فقد مضى زمن طويل على آخر مرة سمع فيها المواطن كلمة لمسؤول عربي يستذكر فيها فلسطين، فضلاً عن أن يتخذ موقفاً من المذابح الإسرائيلية فيها والتي بات واضحاً أنها تستهدف إسقاط حق الشعب الفلسطيني في أرضه، (ناهيك بحق اللاجئين في العودة إليها)..
وأما ثالثة الأثافي ممثلة بالقمة العربية فتستحق وقفة خاصة:
لقد طار موعد أول لهذه القمة بغير تفسير أو توضيح لأسباب إلغائه أو إرجائه.
وجرت وما تزال تجري مداولات ومشاورات، ويقوم الأمين العام للجامعة العربية بجولات مكوكية، ويطلق مكوك لسانه تصريحات غزيرة فيها كل شيء ما عدا تحديد موعد جديد للقمة، فضلاً عن تحديد سبب »نسفها« أول مرة، أو مبررات انعقادها بعد يوم أو شهر أو سنة..
أما الملوك والرؤساء فلم تزد تصريحاتهم عن القول: استبشروا بالخير تجدوه، ومؤكد أن القمة ستنعقد إن شاء الله، ولا بد أن نلتقي بعون الله، ولن يكون إلا ما تريدونه بفضل عناية الله.
فالقاعدة أن الملك يكتسب أهميته من صمته، فإذا اضطر إلى تحديد موقفه من أي أمر هز رأسه بلا يفهم منها نعم، أو بنعم قد تعني لا… وكفى الله المؤمنين شر الكلام!
* * *
على امتداد اليومين الماضيين، كان حديث الرئيس السوري بشار الأسد إلى قناة »الجزيرة« الشغل الشاغل للدوائر السياسية كما للناس العاديين.
ذلك أن الرئيس الشاب يتميز عن سائر الملوك والرؤساء العرب بأنه، في مقابلاته الصحافية كما في خطب القمة، يتحدث بعفوية تصل إلى حدود المكاشفة الموجعة أحياناً، بما يقربه من صورة »المواطن«… بل إن »أقرانه« قد يتهمونه بالتحريض عليهم، وقد يرون في ما يقوله كشفاً لأسرار لا يجوز أن تكشف، وإشراكاً »للعامة« في ما لا ينبغي أن يشاركوا فيه »الخاصة« من المسائل ذات الأهمية التي تعالج في الغرف المغلقة ومع »الكبار« من أصحاب الحل والربط بعيداً عن »الدهماء« التي لا تقدّر المسؤولية..
إنه يتحدث على السجية. من الصعب مباغتته وإحراجه فضلاً عن إخراجه.. بل إنه في لحظات قد يبدو أقرب إلى »المعارض« أو »المعترض« منه إلى »الحاكم« صاحب السلطة والقرار.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنه في حديثه الجديد قد اعترف، ومن موقع المسؤول، بحالة اليأس التي يغرق فيها »العرب«، مؤكداً على مسؤولية القادة عنها… ولكنه في الوقت نفسه لا يقبل بمنطق »أن الأوان قد فات وليس أمامنا غير الاستسلام«، كما لا يقبل القول بأن الضعف العربي مطلق وأن لبعض القوى العظمى قوة مطلقة.
يقول بشار الأسد: من الخطأ أن ننظر إلى القمة كحدث. أين هو العمل الجدي في القمم؟ أين المنهجية؟ أين الإرادة السياسية؟ ما هي القرارات التاريخية التي يمكن أن تتخذ في أربع ساعات؟
ويقول: إن الضغوط الأميركية ليست على بعض القادة، إنها على كل القادة العرب.
في الموضوع الفلسطيني يعترف الرئيس السوري أنه كان وما زال على خلاف مع قيادة ياسر عرفات لأننا ضد نهج الانفراد.. ولكننا في هذه اللحظة متفقون معه، وهناك اتصالات.. وأميركا وإسرائيل تريدان محاصرته لمواقف صدرت عنه ولم ترضهم. يريدون أن يقيلوا رئيساً وينصّبوا رئيساً آخر..«.
وحول العراق والاحتلال الأميركي يقول بشار الأسد: سيغرق الأميركيون في مستنقع. سيدفع العراقيون ثمناً اقسى مما كانوا يدفعونه في العقود الماضية.. وستدفع الدول المجاورة ثمناً مباشراً بما يحصل في العراق. ولا شك ان الأميركيين قد فشلوا.
ويميز بشار الأسد بين المقاومة المشروعة في العراق ضد المحتل وبين العمليات الإرهابية التي استهدفت الأمم المتحدة ومواقع لها احترامها والتي كانت الفتنة الهدف منها… ولا توجد مقاومة عبر التاريخ حسمت ميزات القوى، خاصة من الناحية العسكرية. المقاومة ليست جيشاً. انها حالة شعبية مشروعة. والمقاومة اللبنانية نجحت فحررت.
وبين أبرز ما قاله بشار الأسد ما يتصل بالتمييز بين القومية العربية ونظم الحكم التي قامت باسمها، محددا بدقة: ربما بعد حرب 1973 لم توجد ممارسة قومية بالمعنى الفعلي… مستذكراً كم اساءت حرب صدام حسين ضد الثورة الإسلامية في إيران، ثم غزوه الكويت بعد ذلك، إلى فكرة القومية.
* * *
في موضوعين محددين تكتسب لغة بشار الأسد طابع الحرص على اختيار الألفاظ بدقة، حتى لا يسيء أحد فهمه: الأول هو الوضع الداخلي في سوريا، والثاني هو الوضع في لبنان، وهو متصل مع الأول برغم تمايزه عنه.
وإذا كان يسجل له قبول المبدأ في طرح الأسئلة على موضوعات دقيقة مثل وعوده بالاصلاح، وأحداث القامشلي وبالاستطراد »المسألة الكردية« في سوريا، فإن أجوبته على صراحتها لم تشف غليل من يريد الاطمئنان إلى »مسيرة الاصلاح«.
يقول بشار الأسد: لم آت لأنسف الوضع القائم، ولا امتلك عصا سحرية، وقد قلت هذا عندما تسلمت المهام… وهناك حاجة لتطوير كبير، وهناك قصور في الأدوات، والأولوية للاصلاح الاقتصادي..
أما حول الأكراد فقد حدد موقفاً قاطعاً في وضوحه: القومية الكردية جزء من النسيج السوري، وهي مندمجة بشكل كامل.
أما حول لبنان ونظامه السياسي فقد تبدت صعوبة التغيير: فالوضع في لبنان طائفي، وهذا أمر حساس جداً.. ولا نستطيع ان نقبل أو ان ندعم رئيساً له توجه طائفي.
على ان الرئيس الأسد يوجه نقداً شديداً إلى »غياب المؤسسات الفعلية« ويرى ان لبنان »في حاجة إلى قفزة كبيرة في اتجاه دعم المؤسسات«.. ويتعهد بدعم عملية بناء المؤسسات.
ومع اعتراف الرئيس الأسد بأنه يسمع من بعض زواره اللبنانيين »نقدا موضوعيا«، وبأنه يحترم هذه الآراء ويرى بأنها تساعد على تجنب الكثير من السلبيات، فإنه يرى ان من المستحيل ان يتوافق كبار المسؤولين (أي الرؤساء الثلاثة) على المستوى الشخصي.
ومع ان الرئيس الأسد يحمّل »الطبقة السياسية« قسطاً كبيراً من المسؤولية، فإنه يلح على التذكير بغياب المؤسسات الفعلية.
أما قمة الصراحة، في الموضوع اللبناني، فتتمثل في قوله رداً على سؤال حول التمديد للرئيس اميل لحود أو انتخاب رئيس جديد: كلا الأمرين وارد..
* * *
في المواقف المبدئية: الجواب قاطع الوضوح. من فلسطين إلى العراق إلى القمة إلى امكانات العمل العربي المشترك… ومن الاحتلال الإسرائيلي وممارساته الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، إلى الاحتلال الأميركي وغرقه في المستنقع في العراق.
أما في موضوع لبنان، بكل حساسياته، فإن الأجوبة ترتدي قفازات من حرير. ومع التشهير بالنظام الطائفي غير القابل للعلاج، فإن الحرص على رئاسة الجمهورية بوصفها المؤسسة الأولى يدخل في باب التحوط تخوفاً من الأسوأ.
كذلك فإن الحديث عن »الطبقة السياسية« لا يصل إلى حد التبرؤ منها، مع ان دمشق تعرف بالتأكيد ان مثل هذه »الطبقة« إذا صحت عليها التسمية لا يمكن ان تعطي أكثر مما أعطت وهو أحسن ما عندها، هذا إذا افترضنا انها أعطت بينما هي في رأي الناس قد أخذت وأخذت وأخذت، ثم لم تعط غير ما يشكو منه الناس.. ومعهم الرئيس الأسد.
… وها هي الانتخابات البلدية تكشف كم ان الطائفية هي الاستثمار الأهم لهذه »الطبقة« في ممارسة عملها السياسي، وفي تسلق المناصب العليا بما يعطل المؤسسات.
ولعل صراحة الرئيس بشار الأسد في حديثه عن لبنان، برئاسته ومؤسساته ولعنته الطائفية، تستحق الشكر، لأنها ستفتح باباً أوسع للحوار فيه حول مستقبل نظامه المعتل والذي يصح فيه القول »كلما داويت جرحاً سال جرح«… ويمكن ان يضاف: بل »سالت جراح«!
وجرح لبنان هو، في أي حال، بعض الجراح العربية التي وصفها بدقة »الطبيب« بشار الأسد.

Exit mobile version