الأرض محدودة المساحة بالنسبة لعدد سكانها. ربما اتسعت لبضعة أضعاف السكان إذا أحسنوا التعاون، وأحسنوا استخدام الموارد البشرية والمساحات الخالية المتاحة. هي عكس ذلك ما دامت البشرية تتسلّح حتى أسنانها، وتتلاعب بالبيئة، وتعرّض الإنسان لأخطار أضرار الإساءة إليها (البيئة)، وتكدس السلاح الذي يكفي ما هو موجود منه لإبادة البشرية بأضعاف ما يلزم، خاصة أنواع سلاح الدمار الشامل. وباء الكورونا بمتحوراته المتعددة كشف المستور. السلاح هو بيد الدول الأقوى، كذلك الوباء. الدول في منافسة في ما بينها. الدولة التي ليس لها أعداء، أو يفترض أن لا يكون لها أعداء، تخلق أعداء لتبرر استخدام السلاح، وربما الكورونا. لم تعد الديبلوماسية علاقات بين الدول لإصلاح ذات البين، بل لمنع الإبادة والإبادة المقابلة.
يقال الإنسان عدو ما يجهل. يعرف الإنسان الكثير مما يجهل. يعرف الكثير عن البشرية. يراقب الناس جميعاً من المراكب الفضائية، وعبر الانترنت، وبواسطة الآلة الذكية (الهاتف). يقال ذلك ذكاء اصطناعي. حتى الذكاء يسلخ عن البشري ويُلحق بالماكينة. الأرادة سُلبت منه قبل ذلك. البشر يخضعون من حيث يدرون أو لا يدرون لمن يوجههم عبر سيل المعلومات الى كل بشري. الحياة الشخصية الخاصة والحميمية صارت ملك من يدير منصات التواصل الاجتماعي. فقد الإنسان ملكية حياته الشخصية. هي ملك غيره.
الناس صاروا أرقاماً. يمكن بدقة إحتساب عدد الذين منهم يلزمون لإبقائهم، بل لبقاء النظام الرأسمالي المالي. لا ننسى أن شركات المال والميديا ازدادت بكميات كبيرة في عام الوباء. يزدهر الرأسمال المالي بالوباء كما يزدهر بالسلاح. يزدهر بافتعال الحروب، وصولا الى حروب الإبادة الجماعية. آلية إنتاج اللقاح دون الدواء، وصراع (تعاون) الشركات للحد من اللقاحات المتاحة للبشرية، ناهيك عن عدم توفر اللقاح للجميع في حرب عالمية ضد اللقاح، كل ذلك ينم عن أن عددا كبيرا من الناس لن يصلهم اللقاح وسوف يتساقطون أمام الوباء.
تواجه البشرية بربرية جديدة. بربرية إبادة جماعية. ما كان يُسمى بربرية لم يكن كذلك. كان حياة بدائية مقابل الحضارة. الحضارة احتكرها الرجل الأبيض. اعتبر نفسه ولي أمر البشرية. شن الحروب المدمرة فيما اعتبره حلاً إنسانيا لنشر الحضارة لدى شعوب كانت حتى عهد قريب أكثر تقدماً. ساهمت امبرياليته في منع تقدم هذه الشعوب.
الحضارة البدائية أو ما يُسمى البربرية البدائية كانت مرحلة صيد وجمع، وكانت مرحلة تعاون بين الناس. لم تكن حضارة إبادة. كان عدد الناس قليلاً، وكانوا بحاجة الى التعاون أو ما يسميه البعض اشتراكية بدائية. حرب الإبادة الجماعية نشأت وتطوّرت فنونها وتقنياتها مع تطوّر الرأسمالية. الحضارات ما قبل الرأسمالية كانت الحروب فيها كثيرة، لكنها كانت قليلة الجنود. وكان من ينتصر يستعبد المهزومين ويبيعهم في أسواق النخاسة. ولم يكن يقتلهم. احتاجوا إليهم كأيدي عاملة في البلدان التي اعتمدت نمط الإنتاج الرقّي، وفي الخدمة المنزلية والعسكرية في البلدان التي لم يكن نمط الإنتاج الرقّي سائداً فيها.
لم يعرف العالم القديم وحشية حروب الإبادة كما عرفها العالم الرأسمالي في الأميركيتين وفي غيرهما. شعوب بأكملها أبيدت عن سابق تصميم. البعض لم يعتبروا الشعوب المحلية بشراً، فحلّلوا قتلهم. وعندما تطورت الرأسمالية على يد الرجل الأبيض، حاولت إبادة ثقافات الشعوب المحتلة، وكان ذلك أشبه بحرب إبادة جديدة. على أن ذلك لا يمنع أن شعوباً قديمة أبيدت تحت عبء انهيار حضارتها، حيث تشييد المعابد والأسوار والهياكل والأبنية الضخمة فاق قدرتها المادية، أو ربما لأسباب أخرى.
اعتادت الحرب أن تكون بين بلدان، امبراطوريات، ملكيات، جمهوريات، إلخ.. كان ما يحمي الطبقة العليا هي أن الحرب يتخذ قرارها الأغنياء ليخوضها الفقراء. كانت القومية منذ القرن التاسع عشر وسيلة لتعبئة الفقراء من أجل الحرب باسم “القضية العليا” القومية. قبل ذلك كانت القضية “دينية”. مع الرأسمالية والقومية صارت الحرب أكثر شمولية، بمعنى تعبئة كل قوى المجتمع ضد العدو. هذه الحرب هي حرب تقررها النخب في ما بينها. تشكل هذه النخب شركات وشبكات عابرة للدول والقوميات. هي حرب بين نخب تكنولوجية (مختبرات، مصانع لقاحات، دول للتوزيع على المستهلكين، الدولة ملحق للشركات). حرب تتقدم فيها صناعات الأدوية، بالأحرى اللقاحات، وصناعات الميديا وتوزيعها على كل القطاعات الأخرى. تقبض هذه الشركات والشبكات على البشرية من رقبتها. هي التي تقرر من يبقى ومن يزول من البشرية. من يلزم لخدمة الأغنياء ومن لا يلزم. من لا يلزم معرّض للفناء. بطء إنتاج اللقاحات المتعمد والامتناع عن إنتاج الدواء يشيران الى ذلك. ستمر سنوات طويلة قبل أن تتحقق المناعة الجماعية أو مناعة القطيع. هل سيفعلون ذلك عن طريق منع اللقاح والدواء للعلاج فقط أم باستعمال أسلحة الدمار الشامل أيضاً (النووي وغيره). إرهاصات حروب العنف، خاصة في منطقتنا من العالم، تتلاحق. لا بد من أن يشعل أحدهم فتيل حرب نووية، ولو بشكل غير مقصود.
لم يحدث في السابق أن انقسم العالم الى قلة من البشر، يعدون بعدد أصابع اليد، تملك أكثر من نصف ثروات العالم، وأكثرية مسحوقة. الطبقة الوسطى تتلاشى وتنحدر الى طبقة أدنى. الأغنياء غنى فادحاً يعيشون هم وأموالهم في مكان ما؛ معزولون عن بقية البشر. هل ستنشب الحروب بينهم؟ ماذا سيكون دور الفقراء في ذلك؟ الحروب التي ستدور داخل الطبقة العليا بالمال والدواء هي التي ستقرر مصير البشرية. تستخدم الدول وأسلحتها حيث يلزم وحين يلزم. لا يستطيع الفقراء صياغة برنامج عمل لتحررهم كما فعلت الطبقة العاملة في القرن التاسع عشر. الوعي بما يجري في العالم مفقود. أسرار كثيرة. سر المهنة (لدى الشركات) ما زال ساري المفعول كما في العصور القديمة عند الحرفيين ونقاباتهم. الآن سر المهنة لدى الشركات.
استولت الرأسمالية المالية على مال الدنيا. هم الآن يوزعون الإعانات على الفقراء حتى في أغنى بلدان العالم: الولايات المتحدة. برنامج بأكثر من ألفي مليار دولار، عبر طبع أوراق نقدية لا دعم لها إلا بالقوة العسكرية الأميركية، خاصة في زمن تراجع الاقتصاد الحقيقي السلعي والخدماتي.
ما تحكمت الرأسمالية بالعالم كما تتحكم به الآن. مع سيطرة الرأسمال المالي تشتد قبضة الرأسمالية على العالم. الوباء مناسبة لتأكيد ذلك. بث الهلع في قلوب الناس. الوباء خطير، وهو في الوقت نفسه يجعل الناس معتمدين في بقائهم على النظام. الفقراء، معظم البشرية، يحتاجون الى النظام من أجل البقاء؛ هم بحاجة الى النظام لتقديم المساعدات. أصبح النظام ذا منّة على الناس. طغت هذه الصفة على الطابع القسري للاستغلال بواسطة اقتطاع فائض القيمة. أقصى ما حققته الرأسمالية في السابق هو نشر الوهم الكاذب بانها نظام طبيعي: بأنها من طبيعة الأشياء، وبأنها معطى يحكم البشر كما الحكم الإلهي. تأسس نظام العالم الرأسمالي بعد الحرب العالمية الثانية على مؤسستين للمساعدات، وأخرى للإغاثة والإنقاذ. أصبح النظام كله نظام إغاثة وإنقاذ. أصحاب الثروات الكبرى لهم منة على الناس. هم سبب وجودهم. الثروة إله جديد. عباد الله هم عباد المال أيضاً. ألا يحتاجون إليه؟ هو العلة الثانية، بعد الله، للبقاء على الأرض. مع بلوغهم، أي أصحاب الثروات الكبرى، أقصى درجات القوة والقبض على البشرية، يكتشفون أنهم ليسوا بحاجة الى هذا العديد من الناس خاصة كبار السن منهم. يأتيهم ملاك الموت. الكورونا يستخدمونه ويستعينون به. أعلنوا الحرب على الكورونا. هذا صحيح. لكن الحرب تقتضي تحويل كل قوى الإنتاج المتاحة وتعبئتها لإنتاج السلاح؛ اللقاح أو الدواء، أو كلاهما في هذه الحالة. لكنهم يتركون الأمر لبضع شركات. الإنتاج يتم ببطء. سيبقى الوباء لمدة طويلة. عدة سنوات قبل تطعيم ما يكفي من الناس لإحداث “مناعة القطيع”. هل التباطؤ في إنتاج اللقاح متعمّد؟ يحق لنا السؤال. على الأقل التباطؤ يثير الشك بنوايا النظام. بعض الشك من حسن الفطن.
إن الوقاية الوحيدة هي الكمامة، القعود في البيت، التباعد الاجتماعي. ارتداء الكمامة يعني كم الأفواه وعدم النطق من أجل التواصل الاجتماعي؛ يكمّل ذلك السجن الطوعي في المنزل والتباعد. كل ذلك لإنتاج إنسان لو بقي على قيد الحياة سيكون أشبه بالأصم الأبكم المسجون. يفقد بالضرورة ملكة التواصل الاجتماعي الحقيقية التي جعلت منه مجتمعا بالدرجة الأولى. لنتصوّر مجتمعاً أهله لا يتكلمون، وبدون حميمية حياتية. لا يتواصلون مع أقرب الناس إليهم إلا من خلال الكمامة، أو بواسطة الآلة الذكية التي هي بدورها خاضعة للمنصة المركزية (ربما بضع منصات). مع مرور الزمن يفقد الجميع العلاقات الحميمية والصداقة والإلفة: وجها لوجه. يصير مفردا كائناً قائما بذاته، لا يعني الآخر، مع أنه يشكل معه جزءاً من منظومة واحدة. ربما بقيت المنظومة من دون علاقاتها المعتادة. سنصير مجموعة أحياء يتمتعون بصفة الإنسان الآلي أكثر من الإنسان الاجتماعي. إنسان آلي يدار بحسب المعلومات التي تتدفق عليه لتكوّن وعيه الجديد؛ وعي انعزالي، إن لم نقل عدائي تجاه الآخرين في مجتمعه، وعدائياً بشكل مطلق ضد الآخرين من مجتمعات أخرى. الفاشية والعنصرية جاهزتان لتلقيه بين أحضانهما بكل سرور. إنسان مطواع يخضع للاوامر. فاقد الإرادة ويكره الآخرين. آلة الحرب، أي الجيوش، لن تحتاج الى تجنيد إجباري. الجميع تطوعوا في الحرب ضد الآخرين. الآخرون كل الإنسانية. بشرية فقدت آخر ما تبقى لها من إنسانية. البشري الفاقد إنسانيته هو من فقد الحميمية والألفة والكلام مع الآخرين والنقاش والحوار. هو من تشبث بفرديته في مجتمع له أواصر وبنى. مجتمع لم يعد موجوداً. صار الفرد في مجتمع مفقود الأين والحين والمتى والكيف. في مجتمع فاقد المعنى والمغزى. لا يجدهما إلا في ما يُرمى إليه من هوية. تصادر الرأسمالية الكبرى المال. وترمي للناس الهوية. يتمتعون بهوية آتية من خارج ذاتهم. هوية يمليها نظام ديجيتالي لا يتعاطى إلا بالرموز والأيقونات. هوية المقولة الزائفة؛ مبنية على نظريات الأصول، وأن جماعة بشرية تنبع من أب واحد، وأصل واحد، وتشكل شعباً واحداً ذي ثقافة واحدة مغلقة. مجتمع ما بعد الحداثة يقسّم المجتمع إلى قسمين: قلة قليلة هويتها المال والثروة. وأكثرية بشرية هويتها وهم الأصل والتفرّع من قبيلة واحدة شكّلت على مر السنين شعباً متميزاً عن كل الشعوب. تطغى الفروقات على المشتركات. يمارس الفرد فرديته في المجتمع من خلال التمايزات والفروق وليس من خلال المشتركات. المجتمع الواحد يتحوّل الى جماعة من الأفراد الأعداء. لكنه فرد متعب متهالك ذليل. ليس هو فرد القرن التاسع عشر الذي كانت له نقابات وكان على استعداد لمواجهة السلطة. واعتبر أن له حقوقا، وأن ما ينتجه حق له، وأنه يجب أن يشارك في قرارات الدولة والمجتمع.
في البربرية الجديدة، بربرية القرن الحادي والعشرين، الفرد معزول عن مجتمعه؛ علاقاته مع المواطنين الآخرين تتلاشى لحساب علاقاته مع السلطة والمجتمع، أو بالأحرى من يمثلهما. تضعف العلاقات الأفقية لصالح العلاقات العمودية. العلاقات الأفقية فيها التعاون والحوار والحميمية. بها يتماسك المجتمع، لتنشأ قوى في مواجهة السلطات الاقتصادية والسياسية والمالية والدينية والوجاهات غير الدينية. في العلاقات العمودية يكون التسلّط والاستبداد والاستغلال؛ تراتبية تستخدم فيها وسائل المراقبة والقسر والتحكم. علاقات الند للند هي في الاتصال الأفقي. علاقة السيد والتابع هي في الاتصال العمودي، حتى لو كان مجتمعا ديموقراطياً. الأساسي هو أن العلاقات الأفقية تتيح السياسة والعمودية تتغوّل عليها. والأساسي أيضاً حماية السياسة من الديموقراطية نفسها. لقد أفرغت البلدان الديموقراطية من السياسة. صارت الديموقراطية عدوا للسياسة. حتى في مجتمع متقدم، أنت تخضع لسيل من المعلومات بواسطة الآلة الذكية والتلفزيون وغيرهما من وسائل الاتصال. أنت أعزل أمام سيل من المعلومات التي تهاجم دماغك كل لحظة، دون طلب منك. تحسب ذلك معرفة، وفي الحقيقة هي سيطرة وإخضاع. المثقف القديم انتهى. المثقف الجديد أفرغ من الذاكرة التي تشكّل قاعدة للمعرفة. الذاكرة أودعت في بنك المعلومات. وهذا يتصرف بها. عملياً تم إفراغ الدماغ من مهماته الأساسية. صودرت الذاكرة ومعها الدماغ. استباحة ما يسمى حياة خاصة. لا حاجة لتأميمك. أُمِّم دماغك وما فيه أو ما يمكن أن يصير فيه.
نخب جديدة تملك المال وذاكرة الآخرين. هي من يؤمم النفس والروح عند الآخرين، عند أكثرية الناس. يصادرونهما دون حاجة للدولة، أو لسلطة أخرى، بما في ذلك الدين. إذا أراد القيمون على الأمر زيادة عيار الأصولية في الدين، فلهم ذلك، يستطيعون ذلك، بل يمارسونه. تشعر بالمفاجأة عندما ترى الكم الهائل من التاريخ الخاطىء أو المزور والمحرّف على الويكيبيديا، مثلاً.
الرأسمالية الليبرالية، رأسمالية المال (طغيان المال على كل القيم) حققت الانتصار لا على الاتحاد السوفياتي وحسب، بل على الإنسان في كل زوايا الأرض. حتى الذين يعارضون الامبريالية يتعاملون بمقولات أنتجتها هذه الرأسمالية وامبرياليتها. هل يستطيع المثقفون المشاغبون مواجهة ذلك؟ هل يستطيعون صياغة برنامج للمعارضة والنضال على أساسه؟ للحديث بقية.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق