طلال سلمان

بقاع و»الغارات«

تبدّى البقاع، أمس، مزدحماً بالأحداث والمواقف والرايات ولافتات الترحيب وطوابير الفقراء في »سهل الخير« الذي يحوّله الطيران الحربي الإسرائيلي، بين حين وآخر، إلى أرض متفجرة بالغارات السياسية على سوريا عبر لبنان المقاوم.
وعبر الدخان والغبار والدوي الذي تصاعد من المركز السوري المقصوف في قلب السهل تجلت صورة بانورامية كاشفة للوضع العربي عامة، وللوضع الدولي، في هذه اللحظة، فطغت على الجدل حول »هوية« مزارع شبعا ولأي قرار يخضع تحريرها وهل لل425 أم لل242 و338 أم لمزاج شارون والإدارة الأميركية الجديدة؟!
من هذا السهل، ومن القرى الفقيرة التي تتراصف وتمتد من حول المركز المقصوف، وحتى الحدود السورية، حمل أبناء الفلاحين البسطاء إيمانهم في صدورهم ودماءهم على أكفهم وبعض السلاح في أيديهم وقصدوا إلى الاحتلال فواجهوه وقدموا أرواحهم رخيصة للانتصار عليه بإجلائه عن أرضهم.
لو لم يكن ثمة احتلال وكرامة وطن وأمة لربما رفع هؤلاء سلاحهم في وجه الدولة التي يعطونها كل ما يملكون ولا تعطيهم شيئاً، يقدمون لها الجند والمدرّسين والمزارعين السابقين الذين عزَّ عليهم الرزق في أرضهم التي كانت معطاء فنزحوا عنها وهجروها طلباً للرغيف وفرصة لتعليم الأبناء، وعادوا يتكدسون في حزام البؤس (المجدَّد) من حول العاصمة، يعملون سائقين لسيارات الأجرة والحافلات و»الفانات«، يتنافسون على »الوظائف« البسيطة، دخلاً وقيمة ويفرح من يقبله الملاكون »بواباً« لعماراتهم الفخمة.
لم يفزعهم الطيران المعادي، ولم يبعثرهم القصف القريب. لطالما ألفوا مثل هذه الضربات الجوية ذات الأهداف السياسية، فهذه المواقع السورية المتناثرة بضباطها وجنودها الفقراء (مثلهم) ليست خط نار على الجبهة، وإنما هي نقاط إنذار وحماية خلفية تقصف من أجل الدوي السياسي، وهذا صار مألوفاً وعادياً لا يوقف حتى حركة السير إلا للتثبت من انتهاء الغارة.
بعضهم فرح لانتقال الاهتمام إلى الغارة، أي إلى جوهر الموضوع… فهم في الفترة الأخيرة سمعوا وقرأوا كثيراً مما كُتب عنهم: فجأة أقبلت عليهم شبكات التلفزة، الأرضية والفضائية، المحلية والعربية والدولية، لتصوّرهم من مختلف الزوايا، ولتكشف »سرهم« المعلن من أنهم عادوا يزرعون حشيشة الكيف!
لم يهتم أحد، طوال الأعوام الماضية بهم وكيف يعيشون ومن أين تأتيهم تكاليف حياتهم، ولا بمحاصيلهم الزراعية (العنب، المشمش، الكرز، والبطاطا والثوم والبصل والخضار) وهي تموت معلقة على غصون أشجارها، أو تُترك في أرضها، لأن كلفة جنيها وتعبئتها ونقلها تزيد على مردود بيعها… إن بيعت!
وها هم مصوِّرو الشبكات والصحف يتقافزون اليوم بين المهرجانات السياسية وآثار الغارة الإسرائيلية ولا يتوقفون أمامهم أو معهم ليسألوهم رأيهم في هذا الذي جرى ويجري أو ذاك الذي سيجري… وهم آباء شهداء الأمس وربما شهداء التحرير غداً.
كثيراً ما سمعوا ويسمعون الآن الحكايات عن أن »السلطة باتت أخيراً لهم« في الدولة التي لم تعترف جدياً بهم كمواطنين… وآخر الحكايات صنفتهم »فائضاً« عن الحاجة، حُشيت بهم الدوائر والإدارات والشركات غصباً وقهراً، وها هي تتحرَّر منهم الآن لوقف النزف وإنهاء العجز وتحقيق الموازنة المتوازنة والتحرّر من الدين العام وخدمته الثقيلة!
لكن ذلك موضوع آخر، أما الآن فهم قد هدأوا واطمأنوا لأنهم سمعوا أن الولايات المتحدة دعت جميع الأطراف إلى ضبط النفس وتجنّب الأعمال الاستفزازية، وبعض الدول العربية قد استنكرت الغارة الإسرائيلية وأدانتها،
أما الخبر الوحيد الذي أفرحهم واهتموا بمتابعته فهو أن النيابة العامة البلجيكية طلبت قبول شكوى جنائية ضد سفاح صبرا وشاتيلا الجنرال أرييل شارون، وأنها طلبت المباشرة الرسمية للتحقيقات في المجزرة، وأنها ستوفد محققين إلى لبنان وأنحاء أخرى لاستكمال ملف المحاكمة.
وأما الخبر الذي يتوقعونه، غداً، فمعلق على قرار خطير!

Exit mobile version