طلال سلمان

بلديات سنة اولى ديمقراطية

يدخل اللبنانيون، عبر الانتخابات البلدية والاختيارية، إلى »السنة الأولى« في التجربة الديموقراطية، وربما إلى »الحضانة« في مدرستها العريقة.
إنهم يتلمّسون طريقهم وسط ركام أعمارهم والتجارب المحزنة التي حفل بها دهر الحرب الأهلية، ويفتقدون في الغالب الأعم المثال والقدوة أو آلة القياس.
من أين له »بالتقاليد الديموقراطية« هذا الذي يكاد يطل على الستين من عمره وهو يتوجه لأول مرة في حياته الى صندوقة الاقتراع لكي يعطي صوته وثقته (ومدينته أو بلدته) لهذا أو ذاك من المرشحين؟
بل من أين له الحد الأدنى من المعرفة بواجبات البلديات وحقوقه فيها، وواجبات المخاتير ومسؤولياتهم، وهو لم يجرّب بنفسه، لم يقرأ، ولم يرث عن أهله إلا ذكريات شاحبة أو بعض المناكفات والحساسيات وربما الأحقاد الناجمة عن المنافسات في ما بين »العائلات« على توكيد حضورها ونفوذها واستحقاقها لكل ما يعزز وجاهتها؟!
ليست الديموقراطية هبة أو منحة أو وحياً يوحى، ولا تسقط على الناس من علٍ وكأنها »منّ السما«،
كذلك لا تأتي الديموقراطية كبضاعة مهرّبة في الصندوقة، ولا هي تخرج فجأة إلى الناس منها وكأنها علبة سحرية،
بالمقابل ليست الديموقراطية منّة من الحاكم يمنّ بها على الناس، بل انها حيثما تجذرت وفرضت منطقها وتبلورت تقاليدها وترسخت مؤسساتها هي مصدر الحكم، »تنجب« الحكّام ولا ينجبونها، وتضبط إيقاع ممارستهم للسلطة حتى إذا خرجوا عليها أسقطتهم.
وفي مواجهة امتحان الانتخابات البلدية والاختيارية يكتشف »اللبناني« كم هو بعيد عن أن يكون »مواطناً«، وكم أن نظامه بعيد عن الديموقراطية، وكم أن سلطته عشائرية، طائفية، مذهبية، مثقلة بمفاهيم ريفية، أقرب إلى الكيدية،
وهنا وجه شبه غريب بين اللبناني وسلطته: فهو يطلب الديموقراطية ولا يمارسها فعلاً، لأن موروثه الثقافي والاجتماعي غير ديموقراطي، وهو ينادي بها لنفسه وحده وكأنها احتكار أو كأنه وكيلها الحصري ويمنعها بأي وسيلة عن أخيه وجاره و»الآخر« عموماً.
والسلطة، في كل مكان، وصولاً الى آخر دسكرة في لبنان، طرف مباشر في الانتخابات تلقي بثقلها فيها مع أو ضد، فتلغي الديموقراطية وتزيّف الانتخاب وتزوِّر نتائجه حتى لو لم تبدّل »المظاريف« في الصناديق.
إن الأسماء الأبرز التي أطلت لتتحكّم »باللعبة الديموقراطية« في الانتخابات البلدية والاختيارية هي أسماء المتربعين على قمة السلطة. لكأنهم يريدون الإمساك بأنفاس الناس وأرزاقهم ومصالحهم من آخر مزرعة عند »النهر الكبير« إلى آخر قرية في منطقة الناقورة.
لكأننا محاصرون بأقدارنا من »الثوابت« التي لا تسقط شعرة من رؤوسنا إلا بإذنها!
الملفت أن المدن والبلدات والقرى عموماً تعاني من الإهمال والحرمان والنقص في الخدمات وهدر الموارد (إن وجدت) وسوء الإدارة، ولكن جماعة السلطة يتنصلون من مسؤولياتهم عن هذا الواقع، ويطلون أو يقدمون »مرشحيهم« وكأنهم المنقذون أو عدة المستقبل.
إن الذين تحكَّموا بمسار الانتخابات النيابية ونتائجها يتقدمون الآن للتحكّم بالبلديات والمخاتير، وإلا فضحت الانتخابات الجديدة تلك القديمة، فأسقطت هالات مزوّرة حول رؤوس زعماء المصادفات القدرية الذين تمكّنوا باستغلال النفوذ من فرض أنفسهم »ممثلين« للشعب… ديموقراطياً!
على أن »الناخبين« مسؤولون بدورهم،
إنهم، بداية، لا يعرفون كيف يمارسون الديموقراطية، خصوصاً وقد ذهبت الحرب الأهلية بذلك الرصيد البسيط من تقاليدها التي كانت قد ترسّبت في الحياة السياسية.
لقد طوت الاحزاب، عموماً، اعلامها واستقالت من العمل العام،
وتهاوت مؤسسات العمل الشعبي المنظم (نقابات، اتحادات مهنية، اتحاد طلبة، تعاونيات، روابط، جمعيات الخ)، خلال دهر الحرب، وهي تحاول الان العودة الى المسرح، واحياناً تخطئ الباب، واحياناً تخطئ في الخطاب، واحياناً تساعد على تشويه صورة الديموقراطية، اما بسبب فجاجة طرحها او بسبب الاستعجال او الارتجال، واما بسبب التركة الطائفية التي تثقل حركتها وتشوه مقاصدها.
ثم ان الناس لا يعرفون كيف يحاسبون (انفسهم والغير) ولا عمّ يحاسبون.
وفي حين يحاول »الابرياء« ان يتعلموا بالتجربة، فان اهل النفوذ يرمون بثقلهم لالغاء التجربة او لمسخها بحيث تأتي نتائجها مخيبة للامال، وينفض الناس اكثر فأكثر عن »العمل الديموقراطي«، وتصبح الانتخابات في اذهانهم مرادفا للفرض او لتزوير الارادة او لتنصيب الاقل جدارة في مواقع المسؤولية.
مع ذلك ليس امام اللبنانيين غير ان »يتعلموا من كيسهم«،
قد لا تنتهي هذه التجربة الانتخابية بالنتائج المأمولة منها، ان على مستوى العمل الديموقراطي او على مستوى النجاح في اختيار الافضل،
لكنها فرصة يجب الا تهدر، برغم كل المصاعب او المساوئ التي ترافقها،
انها، في النهاية، انتخابات، اي فرصة لاثبات الذات، فرصة لتوكيد الصدقية والاهلية والاستعداد للعمل العام.
انها فرصة لتجاوز »التراث الحربي« الذي يثقل كاهل اللبناني، وتغليب المنطق المدني،
وفرصة للمباشرة بممارسة الديموقراطية، اي الاعتراف بالاخر، وتجاوز العصبيات والحساسيات الطائفية والمذهبية والعشائرية والعائلية والنرجسية الشخصية،
بل انها الفرصة الاولى التي تتوفر امام جيلين او ثلاثة اجيال من اللبنانيين لكي يقولوا: ها نحن قد وصلنا، ها نحن سنباشر تجربتنا، متجاوزين مراراتنا وخيباتنا واخفاق المراهنات »الحربية«.
ان البلديات (والمخاتير) هي اللبنة الاولى على طريق الاهتمام بالشأن العام.. الحيوي جداً.
انها نقطة بداية ممتازة لهؤلاء الطوابير من الشبان (والكهول) الذين طالما هُمِّشوا او شُطبوا وعُوملوا كرعايا، ليؤكدوا حضورهم واستعدادهم للعمل كفريق،
انها فرصة لكي يؤكد فيها الناس انهم ارقى من سلطتهم، واكثر وعياً منها بمصالحهم المباشرة ومسائل حياتهم اليومية (من الكهرباء، الى الماء، ومن الطريق الى المجاري، دون ان ننسى البيئة والمخاطر التي تتهددها اضافة الى كل ما يتصل بالتنظيم المدني والمرافق العامة والساحات العامة الخ).
انها فرصة للمباشرة باصلاح البيت،
ومن المعيب، ان تضيع، او ان يهدرها اولئك الطامحون الى التغيير، والمتشوقون لممارسة دورهم الطبيعي، في خدمة افكارهم واهدافهم، اما بذريعة الخوف من »الاقوياء« او بالتهيب من الفشل، او بتغليب انانياتهم، او بالسقوط في شرك الحقد الموروث.
لتكن الخطوة الاولى على الطريق الطويل والصعب والمتعب والبهي المسمى الديموقراطية.

Exit mobile version