رفعت العائلات ألوانها، أعلامها، وجوهها، وجاهاتها، مباهاتها على جدران المدينة والبلدات والقرى، ورفعت اللافتات المعلنة عودتها إلى الشارع الذي كان »محتلاً« وهو الآن »فارغ« ينتظر فرسانه القدامى.
آلاف آلاف الرجال، وعشرات عشرات النساء، كهول وشبان، أمهات وزوجات وصبايا: البعض آتٍ من تجربة حزبية منتكسة، والبعض ذاهب إلى تجربة »سياسية« غامضة الشعار والهدف وإن كان الشخص هو نقطة الوضوح فيها: أنا مرشح إذن أنا موجود!
الشارع الفارغ يمتد بطول لبنان، بل لعله يمتد ما بين المحيط (الهادر سابقاً) والخليج (الثائر سابقاً): لا رايات مرفوعة فيه ولا قضايا تعطي حركته المعنى وتحرك فيه الروح.
سقط »الاستثناء« وذهب الوهج العربي للبنان، فعاد إلى تقاليده الريفية. كان مدينة العرب ومنتداهم. شارعهم الوطني ومكتبتهم. مشفاهم ومقهاهم وصحيفة الصباح. مركز أحزابهم وميدان صراعها الفكري ومنفى قياداتها المعارضة. مصيفهم ومطبعتهم ومصرفهم وفندقهم وملهاهم الليلي و»وكر« نشاطاتهم »السرية«.
عاد لبنان بلدا صغيرا، محدود الإمكانات المادية، الفرد فيه أقوى من الحكومة، والعائلة فيه أقوى من الحزب (ومن الميليشيا)، والطائفة أقوى من الدولة.
برغم ذلك فالظاهرة طيبة: أن يقرر هؤلاء الآلاف من الشباب والعشرات من الشابات، التقدم لامتحان »الخدمة العامة« أو »العمل العام«، وأن يقدموا أنفسهم إلى مجتمعهم، بكفاءاتهم سواء أكانت شهادات جامعية أم خبرات وتجارب حياتية، وأن يعترف واحدهم بالآخر ويسلِّم بحقه في الاختلاف عنه ومنافسته، وأن يحتكم وإياه إلى صندوقة الاقتراع وليس إلى البندقية أو كاتم الصوت أو السيارة المفخخة أو تقرير الوشاية أو »يتركها له ويهاجر«.
وبرغم أن هذه الانتخابات، وأكثر من سابقتها النيابية، تجري خارج السياسة، بالمعنى التقليدي للكلمة، إلا أنها تشكل بداية انخراط في العمل السياسي، طالما أنها تتصل بالشأن العام، أي بالناس وشؤون حياتهم اليومية.
لا شعارات طنانة رنانة في هذه الانتخابات، فالشعارات العظمى تحتاج مساحات أوسع من الأحياء والحارات والقرى،
من هنا، ربما التوكيد، على الكفاءة الشخصية: العلم، الخبرة، صحة النسب، جدارة الشخص بتمثيل الآخرين أو بالنيابة عنهم، ولو كانوا من عائلته.
إنها مناسبة لاستعادة الاعتبار الذاتي: نحن هنا، وكلمتنا لنا، لا ينوب عنا حزب أو تنظيم، ولا شرعية لمن يعطي نفسه حق الكلام باسمنا!
أخلت القضايا الكبرى الشارع، وطويت أعلامها:
لا فلسطين فيه ولا ثورتها، ولا أحلام الوحدة العربية والاشتراكية والعدالة.
لا شيء من ذكريات الزمن الجميل، أو من راياته أو من شعاراته، يعني أحداً الآن.
حسناً، فلنلتفت إلى مدننا وبلداتنا وقرانا. إلى الطرقات والماء والكهرباء والهاتف. إلى شؤون البيئة التي يدمرها أكلة الصخور منهجيا، ساحلا وبحرا وجبلا، مدينة وريفا.. إلى مسائل الصحة العامة والكلفة الباهظة للاستشفاء والتواطؤ الضمني بين بعض الأطباء وبعض المستشفيات الذي يحول نصف المرضى إلى عمليات »القلب المفتوح«، ويفرض على كل مريض أصنافا من التصوير المقطعي والمغناطيسي والصدى و»الناضور« الخ بحيث ترتفع فاتورته الى أقصى حد ممكن، وإن تراجعت صحته إلى أدنى حد ممكن.
فلنهتم بحماية ما تبقى من مشاعات، ومن مرافق عامة، لم تنهب ولم تسجل زورا وتزويرا باسم النافذين المسلحين بالسلطة أو بالمال أو بكليهما.
إن كل مواطن تقريبا يقول لنفسه كما للآخرين: ها أنذا. لست مجرد ورقة أو صوت لغيري، وإنما أنا مرشح أيضا إضافة الى كوني ناخبا.
وهي ظاهرة طيبة، مبدئيا، ان »يحضر« الناس. أن يعودوا الى الشارع. أن يخرجوا من ملاجئهم. أن يعلنوا عن وجودهم. أن يقرروا في أمر ما، مهما كان بسيطا.
لتكن البداية من البلدية إلى البلدة فإلى البلد،
… حتى لو بدت هذه الحركة وكأنها عودة إلى قبل العمل الحزبي والنقابي، عودة إلى »تراث« الأربعينيات والخمسينيات.
المهم أن يعود الناس »ليهتموا« بأمورهم،
المهم أن يعود الناس إلى الشارع.. ولو بصورهم!
المهم ألا يظل الشارع فارغا أو مفرغا من الناس ومتروكا للذين طالما تسببوا في إلغاء الناس!
على أن المفارقة المفزعة في الانتخابات البلدية تتمثل في الموقف من الأحزاب،
فحيث الأحزاب من آثار الماضي، لا حياة فيها ولا أمل منها يرجى، يوسع أمامها هامش الحركة ويؤتى بممثلين لها، أما كمعبِّرين ضمنيين عن طوائف معينة، وإنما كنقطة تقاطع بين أطراف العائلة الواحدة مع »تزكية« معنوية للمرشح المعني كصاحب خبرة، أو كصاحب سلطة ونفوذ، مقابل »حزبي صلب«.
أما حيث الحزب قوة فعلية، سياسيا وشعبيا، فإن السيوف تتقاطع عليه، والتحالفات تنشأ بين المتناحرين والمختصمين بسحر ساحر فتطوى الخلافات وتعقد الصفقة الحرام بسرعة مريبة.
يقال للحزب ذي الشعبية: سمِّ لنا واحدا أو أكثر من أصدقائك، ولكن محازبيك ممنوعون من المشاركة!
تغدو الحزبية هنا تهمة أو مرضا معديا كالبرص توجب »العزل«،
ويفاخر بعض قادة الأحزاب بأن تنظيماتهم لا تضم من يستحق ترشيحه لمنصب المختار أو عضو المجلس البلدي، فيلقون »الحرم« على الحزبيين، نفاقا منهم للعائلات وإحراجا للأحزاب ذات القوة الشعبية وذات الجدارة بتمثيل الناس.
وفي حالات أخرى يسمح للحزب أن يرشح هنا ويمنع من ترشيح أعضائه هناك، بغير تفسير أو تبرير، اللهم إلا »للأصدقاء الكبار« في الخارج، من عرب وفرنجة!
الطريف ان أركان السلطة الآن، ليسوا من عائلات الدم الأزرق، وبعضهم كان حزبيا أو محازبا، وبينهم مَن ما يزال يرئس حركة حزبية موروثة أو مستحدثة،
مع ذلك فهم بمجموعهم يخافون ما تبقى أو ما نشأ في السنوات الأخيرة من أحزاب جدية، ويتحالفون ثم يستعينون بالمؤسسة الدينية، وبالعصبية العشائرية والعائلية لمحاصرة الحزبيين الأصحاء والعمل على منعهم من الوصول الى حيث استحقوا بتضحياتهم وعملهم اليومي مع الناس ولهم.
لكأنهم يريدون بلديات على غرار مجلس الوزراء، أو ربما مجلس النواب: العدد لا يعوض النوع، والتمثيلية الشكلية لا تعكس ولا تعبّر عن رأي الناس بل تطمسه.
»عائلتي، عشيرتي، طائفتي« أو »سلطتي بطائفتي لعائلتي«
العائلة، الآن، قبل الله، وقبل الوطن في الشعار الكتابي القديم.
هذا يؤكد مدى تقدمنا.. إلى الخلف!