ليست هي المرة الأولى التي يطرح فيها مجلس المطارنة الموارنة بقيادة البطريرك صفير وبنصوصه ذات اللغة المميزة بكثافة دلالاتها وتورياتها وإيماءاتها، اعتراضاته الجدية على الأحوال السائدة في البلاد، إن على مستوى الحكم، أو ما يتصل بمسؤولية القوى السياسية ذات التأثير في القرار، ولكنه في البلاغ الرقم سبعة ذهب إلى أبعد مما عوّد الناس فطرح ما يمكن اعتباره الخطوط العريضة لمشروع إعادة تأسيس الدولة في لبنان.
ولعل السادة الأحبار، وبزعامة البطريرك صفير دائماً، قد رأوا أن لبنان قد دخل بعد الحرب الإسرائيلية التي بالكاد أعلن عن وقف آخر مفاعيلها وهو الحصار الجوي والبحري مرحلة جديدة، تصلح في تقديرهم لأن تكون تأسيسية وبالتالي يمكن الانطلاق منها لإعادة بناء الدولة.
ذلك أن البلاغ قد رأى في وضع لبنان الراهن، نهاية مرحلة انفراد جماعات بالقرار فتأخذ البلد إلى حيث لا يريد ، مسجلاً أنه كلما انفردت جماعة طائفية بموقف له عواقبه على البلد جرّت الوبال عليه .
لتوكيد الموضوعية، ربما، والابتعاد عن شبهة التورّط في إدانة جماعة أو طائفة معينة، لا سيما في هذه اللحظة وحيث يمكن أن يذهب القصد إلى المقاومة ممثلة ب حزب الله واستطراداً إلى الشيعة فقد ذكر البيان البلاغ بحالات تفرّد سابقة قامت بها طوائف أخرى أبرزها: إقدام الموارنة ممثلين برأس الدولة، الذي كانت صلاحياته مطلقة، على جر البلاد إلى الأحلاف الأجنبية (حلف بغداد)، ثم إقدام السنّة على إباحة أرض لبنان للكفاح الفلسطيني المسلح على حساب سيادة الوطن فكان الانفجار الثاني (بعد 1958).
أما وقد تساوت الطوائف الكبرى في ارتكاب إثم توريط البلاد، فقد بات ممكناً التخفف من إدانة الماضي والحاضر إلى تصور مشترك للمستقبل يقوم على تسليم الأقوياء بأنهم قد أخطأوا وعليهم العودة عن الخطأ.
والحل عند السادة الأحبار بسيط: العودة إلى الصيغة التي واكبت الحقبة الاستقلالية حين كانت القوى السياسية تنتظم في تكتلين سياسيين عريضين، لا يرقى أي منهما إلى صيغة الحزب، ولكن كلاً منهما يجمع في صفوفه قيادات من طوائف مختلفة، وإن كانت رئاسة الجمهورية هي الهدف المباشر لكلا التكتلين اللذين تزعمهما المتنافسان المارونيان على تلك الرئاسة تحديداً، ولم يكن لأي منهما أي برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي واضح، بل ولم يكن الواقع الشعبي في مختلف المناطق، بين هموم أي من التكتلين المتنافسين على الموقع الممتاز، على رأس السلطة، بصلاحياته غير المحدودة… بل واللاغية للدولة، بأي مفهوم معاصر.
في هذا المجال لا بد من الإشارة إلى أن بيان السادة الأحبار بنصه البطريركي الراقي قد حدد لمن يطمح إلى رئاسة الجمهورية في المستقبل مواصفات شبه مستحيلة: فالرئاسة منصب رفيع يقتضي ممن يدعى إلى تبوّئه الكفاية والخبرة والتجرد والتعالي عن الصغائر والتضحية في سبيل خدمة المواطنين ، و على الموارنة الذين يعود إليهم منصب الرئاسة الأولى أن يلتزموا أصول التنافس عليه شرط أن ينحصر في مرشحين يتمتعون بمؤهلات وخبرات وتضحيات وقدرات معنوية وخلقية تؤهلهم لهذا المنصب .
ومع أن بيان السادة الأحبار بنصه البطريركي الراقي قد خص أبناء الجنوب بأكثر من إشارة، أبرزها أن يجددوا ثقتهم ببلدهم الصغير الذي وصف بأنه نموذج للديموقراطية والعيش المشترك ، مناشداً الدولة أن تأخذ مسؤوليتها كاملة تجاه جميع أبناء الجنوب المنكوب وتعمل على تنميته ، إلا أنه أغفل أية إشارة إلى إسرائيل وحروبها المتكررة ضد لبنان، والتي كان الجنوب ضحيتها الأولى دائماً، قتلاً وتدميراً وتشريداً لأهله، تاركاً للغموض المقصود في النص أن يساوي ليس فقط بين جيرانه وأصدقائه ، بل بين إسرائيل والمقاومة التي قاتلت ببسالة استثنائية حتى تمّ تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي في العام ,2000 والتي واجهت الحرب الإسرائيلية الجديدة بشجاعة أسطورية فصمدت في مواقعها على الحدود لثلاثة وثلاثين يوماً بلياليها الجهنمية تدافع عن أرض الوطن وعن مواطنيه، حتى انتبه إلينا المجتمع الدولي فأصدر قراره الذي أدان الضحية وكاد يكافئ الجلاد، والذي نتمنى أن تنحصر مفاعيله في ظاهر نصوصه المجحفة.
ولافت ألا يذكر هذا البيان المكتوب بعناية فائقة، والشامل لحقبات تاريخية متعددة، إسرائيل ولا مرة بالإسم، مغفلاً الارتباط بين مشاريع الأحلاف الأجنبية وبينها باعتبارها قاعدة محلية لذلك الغرب، ومغفلاً أن الكفاح المسلح الفلسطيني كان رد الفعل
الطبيعي على الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين وتشريد الملايين من مواطنيها الأصيلين والأصليين، في دنيا الشتات، وقد كان نصيب لبنان منهم مئات الألوف…
ومع التنويه بالنبرة الاستقلالية التي تتبدى جلية في النص الراقي لهذا البيان التأسيسي، بمبادئه العامة التي أريد بها أن تكون دستوراً جديداً، يعيد التوازن المفقود إلى مشروع الدولة العتيدة، فلقد كان من الأكرم والأكثر إنصافاً لو أن البيان قد جعل المجهول معلوماً وهو يتحدث عن المحنة القاسية جداً التي جعلته موضع اهتمام المجتمع الدولي، الذي وقف إلى جانبه لمساعدته على وقف الاعتداء عليه ووقف حمام الدم الذي كان مسرحه . فلا بد أن للمعتدي اسماً وللمسؤول عن حمام الدم اسماً، خصوصاً وأنه دولة عاتية نال أذاها جميع الأقطار المجاورة منذ إقامتها على أرض فلسطين.
ومع التسليم بأنه لا يجوز لطوائف لبنان أن تدين بهذا الولاء لهذا البلد أو ذاك، بحجة أن معظم أبنائه هم من أبناء دينها أو ملتها وبأن سياسة الأحلاف تؤذينا أكثر مما تنفعنا خصوصاً إذا تفرّدت بها طائفة، من دون الدولة ، فإن دعوة السادة الأحبار في بيانهم ذي النص البطريركي الراقي اللبنانيين على اختلاف المذاهب والمشارب أن يلتقوا على جامع مشترك هو الانكباب على وطنهم لتضميد جراحه وإعادة بنائه على قواعد ثابتة تستحق أن تحظى بما يليق بها من اهتمام، فهي شرط حياة للبنان اليوم والغد.