اعظم كاريكاتور لبهجت عثمان هو ذلك الذي لم يرسمه بريشته بل بموقفه:
لقد اعتزل الكاريكاتور لانه رأى ان الاخبار المعلبة وتصريحات الحكام المنافقة وردود الفعل على مقامرات الحروب الخطأ في المكان والزمان والهدف، او على الانحراف والسقوط والتفريط، باتت مسخرة عميقة باكثر مما يمكن او يستطيع ان يسخرها او يسخر منها ومن ابطالها الافذاذ.
وهذا المعرض هو اخطر كاريكاتور ضد بهجت عثمان!
اننا نكرمه احتجاجاً، كجندي فار من الميدان، ونضحك معه ضحكاً كالبكا!
وان تضحك يعني انك معارض، وربما متمرد الى حد الثورة بالكفاح المسلح.
ان تضبط وانت تضحك، هذه الايام، يعني انك ارهابي وانك متطرف، وانك عنصر هدام، وبالتالي فانت تخالف ارادة السلطان وتتآمر على حكمه الابدي وعدالته المنزهة.
والا فكيف تضحك الرعية، برغم كل الظلم والشقاء والهموم الثقيلة من النفايات الى الاقساط المدرسية الى اسعار الشقق، ومن معاهدات الصلح المنفرد الى الخطة العشرية، انتهاء بحديث الرئاسة المجددة بالتمديد او العهد الممدد بالتجديد وما بينهما من حصار بحري وحظر جوي واجتياح تركي اخوي وحنيف؟!
وليس عبثاً تخوف العامة، مثلنا، من مغبة الضحك، والتوجه الى ا” سبحانه وتعالى لكي يتدخل شخصياً فيعصمنا ويقينا شر المعصية التي ارتكبنا متوسلين اليه: اللهم اجعله خيراً…
لهذا يمكن اعتبار اجتماعنا الان هنا في دار الندوة، ولمناسبة العيد الثاني والعشرين من تأسيس »السفير«، ومن حول هذا المتآمر المحترف بهجت عثمان، وكأنه شروع في انقلاب: لكأننا جئنا لكي نضحك منهم، جئنا لنسقطهم بهيبتهم وجلالهم بالقهقهة المدوية او بالابتسامات الخبيثة على وجوه المتحفظين او المندسين من العسس والمخبرين الملكيين!
اول ما تعرفنا الى فن الكاريكاتور كان سخرية منا، وكنا نحن موضوعه، ان في صحف الغرب، او حتى في بعض الصحف والمجلات العربية التي سبقت الى استخدام الكاريكاتور.
الان انتقلت السخرية بنا من داخل ذلك الاطار المحدود للرسم الكاريكاتوري مع مانشيتات الصحف الغربية اخباراً وصوراً وتعليقات.
اما اول ما تعرفنا الى الكاريكاتور كفن في خدمة الانسان العربي وقضاياه ففي الصحف المصرية التي سرعان ما سارت على خطاها بعض الاسبوعيات اللبنانية كالدبور ثم الصياد. ولقد كان لمؤسسة روز اليوسف، في القاهرة، شرف السبق، ثم جاء احمد بهاء الدين شفاه الله ليطور هذا السلاح بالتكافل والتضامن مع مجموعة من الفدائيين المشبعين بحب الارض والناس والذين يملكون الكثير ليقولوه بريشهم الساحرة: وكانت مجلة »صباح الخير«… التي نعتز الان بان بيننا اثنين من مقاتليها الاكفاء في الزمن الجميل، فاضافة الى بهجت عثمان يسعدنا وجود الفنان الكبير محي الدين اللباد، اضافة طبعاً الى طيف احمد بهاء الدين، هذا الرائد العظيم في دنيا الصحافة العربية، والذي اعطى فيها مساحة استثنائية للعقل وللتحليل الهادئ وللرقم والحقيقة العلمية، كما حرضها على ان تطل على الثورة العلمية التي تبدل الكون، واقتحم بها الاجيال الجديدة برؤاهم المختلفة وافكارهم البكر وكلماتهم غير الملوثة بالشبق الى السلطة.
بهجت… العيد،
فبهجت عثمان هو واحد من مؤسسي »السفير«، ومن المساهمين في صياغة شعارها الاثير: صوت الذين لا صوت لهم، كما في انعاش روحها وصفحاتها برسومه كما بكتاباته التي جمع بعضها في كتابين سيكونان متاحين هنا لمن يرغب في شراء السلاطين والاباطرة ودكتاتوريي القمع بحفنة من الليرات.
واذا كان ناجي العلي هو »الديّان« فبهجت هو الضمير.
واذا كان صلاح جاهين هو الشاعر الذي يئس من الكبار، فان بهجت هو الذي اكتشف ان الامل في الاصغر وصك شعاره الممتاز: من اجل بعد بعد بعد بعد غد افضل!
واذا كان اللباد هو الحكيم وحجازي هو العبثي الماجن فان بهجت هو الواقف على الحد القاطع بين الحكمة الضاحكة والمجون الحكيم.
تحية لهذا الرهط من المبدعين، ومعهم من لبنان جان مشعلاني وبيار صادق وملحم العماد وستافرو وكل ريشة ندبت نفسها لاسعاد بسطاء الناس والانتقام لهم من اولئك الذين اخذتهم المناصب الى الضفة الاخرى فحق عليهم العقاب المضحك المبكي!
والحمد لله ان الحال قد تغير، مع التمني ان يستمر التحول في اتجاه الافضل، فلا يظل الرسامون يترجمون رؤية الاجنبي لعيوب المجتمع وظواهره السلبية في بعض الوان التهريج المرسوم او عبر بعض الشخصيات المبتدعة في لحظة تخل، والتي كانت تتضمن شيئاً من التحقير للرجل وللمرأة في آن، وتغيب القضايا الاجتماعية، او الظلم الاجتماعي عبر التشهير الشخصي المباشر.
فالرسام كالكاتب والصحافي هو صاحب الارض وصاحب القضية، يحمل هموم شعبه ويعبر عنها باسلوبه المتميز والاقدر على النفاذ والوصول الى اعرض قاعدة جماهيرية.
ولعله مسموح لنا ان ننكت على بعض النكت غير الدقيقة في تصويبها، فنطلب ان تكون هذه القلعة الاخيرة سلاحاً في يد الفقراء والمستضعفين، لا سلاحاً اضافياً ضدهم.
والرسامون الاصيلون فرسان نبلاء يشقون بطن اليأس وينازلون الاحباط والتخلف والاستكانة فاذا هي مجرد نكات قديمة، ثم يطلقون نكاتهم الجديدة لتخترق الحدود والسدود التي سورت بها انظمة القمع رعاياها حتى لا تفسدهم بشائر التقدم الانساني والتحولات المجيدة التي تأتي تتويجاً لنضال طويل ومرير من اجل الحرية والخبز مع الكرامة.
من وجداننا يأتون الينا »رفاق السلاح« هؤلاء.
اننا فيهم، نرى في وجوههم ملامحنا والامنيات.
يخافون من نملة هؤلاء الاطفال المتنكرون في ثياب البالغين، ولكنهم يخيفون الطغاة والسفاحين والعسس والبصاصين والنمامين وجلاوزة انظمة القهر والافقار.
لا ادعاءات مجلجلة، لا جمل ثورية، لا خطب خاوية الدوي، فالابسط هو الاصدق، والسخرية هي السلاح الضد الناجع في اسقاط اولئك الجبابرة الجبناء.
انهم كالانبياء في سذاجتهم، يقرأون الغيب ويستشفون الآتي، ولنا فهم يهزأون من القائم بالامر يضحكون من جبروته، وقد يضحكونه من نفسه، يسقطون عنه هيبة »المعصوم« المختلسة والمدَّعاة، ويتركونه لصغارهم يلهون باوسمته المزورة وصولجانه المسروق وجنرالاته المهزومين من قبل ان يحاربوا.
* * *
بهجت عثمان ليس في الماضي.
بهجت عثمان يحمل هم الغد ويمد ريشته المبدعة اليه، انه يقول لنا ببساطة، ما الذي يجب ان نسقطه لكي يكون لنا الغد الذي تستحقه انسانيتنا. انه لا يسخر فقط من التواكل والتباطؤ والبيروقراطية والفردية والتخلف والتحجر والتعصب وسائر امراض السلفية.
وهو لا ينتقد فقط اولئك الذين يضربون الناس بسيف السلطان لانهم يأكلون وبشراهة من خبزه المسموم. انه لا يستدر ضحكك لمجرد اضحاكك، فهو ليس المهرج ولست المترف الخلي البال الذي يبحث عن تسلية مجانية يكون موضوعها في الغالب الاعم المواطن الغلبان.
ان موضوع نقده الحكومة لا الاهالي، الا اذا هم تقاعسوا وخنعوا وارتضوا الظلم والتغييب والغاء الدور.
وليس بالمصادفة انه لم يجعل »الصعيدي« موضوعاً لنكاته، كما فعل ويفعل الكثيرون من المستغربين والمتغربين عن اوطانهم ومجتمعاتهم، المتنكرون لاصلهم واهلهم بهدف الالتحاق »بالمجتمع الراقي« البريء من قيم الصعايدة ومباذلهم.
انه صاحب نكتة مبدع، لكن النكتة ليست نكتة لذاتها. ليست حبكة او تورية او لعباً على الالفاظ والكلمات. ليست فناً للفن.
انها طلقة سخرية لاذعة لا تخطئ هدفها فيختلط الدوي بالقهقهة، فاذا ما هدأت موجة الضحك العارمة تبعث في النفوس المعرفة اليقينية بمواقع الخطأ والخلل الواجب اصلاحها.
تحية لدار الندوة وهي تشارك »السفير« بهجت عيدها،
تحية لبهجت وزملائه جميعاً الذين على سن ريشاتهم تزهر الاحلام،
وشكراً لكل من جاء يضحك معنا من بهجت الذي يتوهم ان المبدع يمكن ان يتقاعد او يستقيل او يضبط نكتة لا بد منها!
والسلام عليكم ورحمة ا” وبركاته.