طلال سلمان

بيروت وقمة صمود فلسطيني

يبدو لبنان، بحكمه وقواه السياسية المتشابهة المتعارضة المتشاركة المتشاكسة، مشغولاً بنفسه بأكثر مما تحتمل اللحظة الراهنة، سيما وأنه البلد المضيف لقمة عربية ستنعقد فوق بحيرة من الدم الفلسطيني، وفي ظل ضغوط أميركية قاسية تستغل الوهن العربي العام »لإنقاذ« السفاح أرييل شارون وحكومته وجيشه الذي لم يوفر سلاحاً فتاكاً إلا واستخدمه، ولم يرحم امرأة أو طفلاً أو شيخاً أو سيارة إسعاف، ومع ذلك عجز عن كسر الصمود البطولي لهذا الشعب الأعزل وعن إجباره على الاستسلام.
ومن المفارقات المفزعة أن تجري مقارنة سريعة بين عناوين »الاشتباكات« المحلية التي تنزلق بالأزمة الاقتصادية الثقيلة الوطأة نحو المستنقع الطائفي، مما يزيدها تعقيداً ويحول احتمالات حلها أو التخفيف من وطأتها إلى تمنيات كسيحة، وبين الصور البطولية للمقاومة الفلسطينية المتواصلة بل والمتعاظمة قدرة وبسالة برغم المذابح الإسرائيلية المنظمة التي تلتهم على مدار الساعة العشرات من شباب فلسطين، فضلاً عن التدمير المنهجي لمقار السلطة والبيوت وأكواخ اللجوء في الضفة الغربية وغزة وصولاً إلى الحدود المصرية.
وفي غمرة هذه »الاشتباكات« ضاع بعض الرصيد المعنوي الذي أضافته زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى بيروت، عشية القمة، ومساهمته في صياغة موقف مشترك يصلح أساساً للصمود الداعم للانتفاضة الفلسطينية، بالإفادة من مناخ الانتصار اللبناني على الاحتلال الإسرائيلي لحماية »الحد الأدنى« من قدرة القمة العتيدة على الإنجاز بتطوير »الأفكار« و»الرؤى« التي طرحت مؤخراً بحيث تكون إسناداً مؤثراً للصمود الفلسطيني يساعد على تحصينه في وجه الضغوط الهائلة التي تعرض ويتعرض لها أميركياً وعربياً، فضلاً عن سياسة الإبادة الجماعية التي تمارسها حكومة شارون ضد كل من وما هو فلسطيني.
لم يذهب الدم الفلسطيني هدراً، فها هي الإدارة الأميركية المحرجة بتعنت شارون ثم بعجزه عن كسر المقاومة الفلسطينية، تعود إلى دور »الوسيط«، ولو لوقف النار بغير شروط إسرائيلية مسبقة، بعدما أقر سفاح المخيمات جميعاً، حيثما وجدت في لبنان (صبرا وشاتيلا) أو فلسطين (طولكرم، نابلس، جنين، غزة، رفح، خان يونس) أن ظهره الآن إلى الجدار، وأنه يمضي وقته حبيس ديوانه تحت حراسة شديدة، يمارس السياسة التي لا تقود إلى مكان كما تصفه الصحافة الاسرائيلية.
لم تتحرك الإدارة الأميركية بدافع الإشفاق على الفلسطينيين، ولا استجابة لمساع عربية تركز معظمها على »التوسط« بين السفاح والضحية، بل بدافع الخوف على اسرائيل من جنون رئيس حكومتها الذي كلفها في سنة واحدة وحتى الأمس 320 قتيلا بينهم حوالى أربعين في أسبوع واحد.
ولم تتحرك هذه الإدارة نتيجة المذابح الاسرائيلية على مدار الساعة والتي أوقعت في الأربع وعشرين ساعة الأخيرة خمسين شهيدا، قضى كثيرون منهم لأن فرق الإسعاف منعت من الوصول إليهم لإيقاف النزيف ونقلهم الى المستشفيات الفقيرة الإمكانات.
إن العجز الاسرائيلي عن كسر الصمود الفلسطيني قد ترك شارون »مغلول اليدين داخل فراغ كبير أسود يمكن أن يتحول الى مقتله السياسي«، كما »رشح رئيس الأركان موفاز لأن يتحول الى بطة عرجاء«، وأظهر جيش اسرائيل في لحظات كثيرة »وكأنه يسخر لحراسة المستوطن الواحد«، بينما ساد اليقين بأن »نصف الشعب ونصف الجنود في اسرائيل يفترضون أن هذه الحرب زائدة«، لا ضرورة لها ولا توفر حلا، كما قالت الصحافة الاسرائيلية.
لقد بدل الصمود الفلسطيني في سياسات العديد من الدول، فأعاد بعض الروح الى محاولات أوروبا للتميز عن الموقف الأميركي والابتعاد أكثر فأكثر عن تغطية شارون ومذابحه، ولجم اندفاع بعض القيادات العربية الى »توسل« الأميركيين لكي يتحركوا، وفرض على الإدارة الأميركية أن تعود الى المسرح الذي كانت تريد أن تخليه لمصلحة ضربتها العتيدة ضد العراق.. وهي »الحرب« التي تتباهى الولايات المتحدة الأميركية علنا بأنها ستشنها في الموعد الذي تراه مناسبا، وتحشد لها من العرب أكثر ما تحشد من الغرب، وتحضر العملاء المرشحين لوراثة النظام بغير تورع وبغير مداراة لمشاعر العراقيين الوطنية وكرامتهم التي لا يمكنها أن تسلم بهذه »الوصاية« الدموية، كائنا ما كان رأيها في النظام القائم.
ولا بد من الاعتراف بأن هذا الصمود الفلسطيني قد أنقذ وبالدم الذي فتح الباب للريح قمة بيروت العربية… فمن دونه كانت هذه القمة ستفقد مبرر انعقادها، لأن ما كان يدور في الكواليس وفي الغرف المغلقة، في بعض العواصم العربية، أو في »عاصمة القرار« الأميركي كان أقرب الى »الفضيحة« التي يتعذر إخراجها الى النور.
وما نتمناه ألا تتسبب »مهاوشات« الحكم ومعارضاته المتعددة في لبنان في هدر بعض ما حققه الصمود الفلسطيني، وألا نشغل العرب بمصالحات ممثلي الوكالات الحصرية للطوائف في لبنان، بدلا من التفرغ لصياغة موقف عربي متماسك، ولو على قاعدة الحد الأدنى، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من فلسطين التي تقاتل الآن نيابة عن جميع العرب، والتي أعطت من لحمها ومن حقها في الحياة، ما سيمكن القادة العرب من التلاقي ومن الظهور بمظهر أصحاب القرار.
وعسى ألا يكون الأميركيون أكثر سخاء على فلسطين من أهلها العرب!

Exit mobile version