تلح عليك صورة »بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء«.
المسافة عشرون عاماً إلا قليلاً. المسافة تكاد تؤرّخ لزمن مختلف غير الذي كان… المسافة من الحريق إلى الحريق أوسع من خيالك وقدرتك على تمثل كل هذا الذي أصابك في أحلامك وفي جهدك من أجل الإنجاز والتحرك إلى الأمام، إلى حيث هي الدنيا الجديدة التي كنت تفترض أنك تتقدم في اتجاهها.
ذلك حديث آخر سيشغلنا عن التماهي بين الصور التي تتوالى أمام عينيك على الشاشات، متسارعة، متداخلة، متكررة حتى لا تكاد تميّز بينها، والصور الأخرى التي تعيد ذاكرتك المكدودة بثها متوهجة، نابضة بعد، للعاصمة التي سبقت إلى الاغتسال بدمها في مواجهة الاحتلال..
متأخراً تنتبه إلى الفروق، في الجغرافيا وفي طراز البناء، بين المدينتين الشهيدتين: فبيروت المتدرجة صعوداً إلى قمم الثلج تترك قدميها للبحر يغسلهما ولا يتعب، بينما بغداد تمتد وتمتد وتمتد حتى يكل بصرك ولا تنتهي عمارتها.
يصلها دجلة متلهفاً، ثم يتباطأ في تدفقه، فيلتف في قلبها مستولداً المزيد من الأحياء ذات البيوت المزنرة بالحدائق، ويمضي وتمضي معه، لا هو راغب في فراقها ولا هي تريده أن يغادرها: هو كحبل سرتها فكيف تقطعه؟
الشط في قلب المدينة مقاه ومتنزّهات وحدائق وغابات من القصب مؤهلة لاحتضان مواعيد العشق، بينما البط يسرح فوق صفحة النهر متنبهاً، كأنما في دورية حراسة، وكلما اشتبه بحاسد أو عذول متسلل أطلق صيحات تشده إليه وتبعده حتى لا يفسد لحظات من الحب المختلس »ذاك الصوب«..
زمجرة الصواريخ حاملة الموت والدمار هي في بغداد مماثلة لتلك التي ما تزال تطن في آذان أهل بيروت في ذلك الصيف الذي حوّله الاجتياح الإسرائيلي إلى جحيم سياسي قبل أن يملأ ساعات نهاراته ولياليه بالقتلى والجرحى والمشوّهين والبيوت المفرغة من أبناء الحياة والمتروكة للخراب المزيّن بنجمة داوود.
الطائرة هي الطائرة.. بل ان الجديدة أسرع وهي في المناورة أكفأ،
الصانع هو الصانع، وقد جاء هذه المرة صريحاً، بملامحه الأصلية وعلمه الأميركي غير مموّه، تماماً كهدفه المكشوف: المهمة احتلال العراق، والاحتلال يتطلب التدمير، وبعد التدمير المنهجي الشامل يمكن غرس نبتة الديموقراطية لتسمق ارتفاعاً حتى تبلغ حدود الفضاء، وتمتد جذورها في الأرض المحروقة فينتفع بها هؤلاء البدو المتخلفون ويدخلون العالم بنظامه الجديد.
الدبابة هي الدبابة، وان كانت الآن أعظم تجهيزاً وأشد فتكاً.. ثم انها مكيفة الداخل، بحيث يستطيع طاقمها ان يدمر كل ما يقع عليه بصره من دون ان »يفطس« بحرارة القذائف المنطلقة بالموت الى الناس الذين صاروا الآن »أهدافاً«، أو يضطر الى فتح لفجوتها في السقف فيصير هدفاً لأولئك الناس حملة البنادق القديمة بشواربهم »المنقاشية« الكثيفة والذين لم يعودوا مؤهلين للحياة!
أما الجنود ذوو الوجوه التي من حديد، فلا يختلفون كثيرا عن أولئك الذين جاءت بهم نزعة الهيمنة وتوكيد التفوق والرغبة في السيطرة على بلاد الآخرين ولو بتدميرها، والعداء لأهل الارض الى المدينة الاميرة بيروت..
ها هم الآن يتولون تدمير المدينة الملكة: دار السلام!
***
تترامى أشلاء المدن ذات التاريخ، المحترقة أطرافها الآن، بنيران »الحرية للعراق« على امتداد المسافة بين الخليج العربي والعاصمة التي ابتناها أبو جعفر المنصور قبل حوالى الف ومئتين وخمسين من السنين:
»وذكر الشمشاطي في تاريخه ان المنصور لما أراد بناء مدينة السلام أحضر أكبر من عرف من أهل الفقه والعدالة والامانه والمعرفة بالهندسة، وحشر الصنّاع والفعلة من الشام والموصل والجبل وسائر أعماله وأمر بخطها وحفر الاساسات، وجعلها بثمانية أبواب، أربعة داخلة وأربعة خارجة كبار، باب البصرة، وباب الشام، وباب خراسان، وباب الكوفة، وجعل الجامع والقصر وسطها، وقبلة جامع الرصافة أصح منه. ووجدت في بعض خزائن الخلفاء ان المنصور أنفق على مدينة السلام أربعة آلاف ألف وثمانمئة وثلاثة وثلاثين درهماً، لان أجرة الاستاذ كانت قيراطا وأجرة الروزكاري حبتين«.
مدافع الديمقراطية الاميركية أقوى من هندسة ابي جعفر المنصور: لقد دكت قلبها وأطرافها دكاً. اغتالت البيوت الفقيرة والعمارات الحديثة ذات المكاتب الأنيقة. فجّرت القصور »الملكية« و»الجمهورية«. اجتثت الاسواق بالمتسوقين الفقراء وأصحاب الدكاكين والمارة والنسوة، اللواتي كن ينشرن الغسيل على حبال معلقة فوق الشرفات. ضربت الكرخ والرصافة، الاعظمية والكاظمية، ضربت دجلة وشواطئ العشق من حوله، ثم استسهلت ان تفتك بأكواخ الناس البسطاء الطيبين في مدينة الثورة، حيث يتكدس من جاؤوا يبيعون تعبهم ليشتروا رزقهم في عاصمتهم البهية، في ظلال هارون الرشيد والامين والمأمون ودار الحكمة، وليوفروا العلم لأبنائهم النجباء في جامعاتها ومعاهدها الممتازة.
***
طاردوا الضوء بالصواريخ عابرة القارات حتى قتلوه. الحرية الآتية من البعيدة تحب الظلام لكي تنام!
طاردوا رسائل الشوق والاطمئنان على الأهل والتواصل مع العالم فدمروا مراكز المواصلات، وخرّت الهواتف صريعة الخرس. الديمقراطية الأميركية لا تعيش إلا في ظلال الصمت.
ثم التفتوا إلى المطار: ما حاجة البدو المتخلفين إلى الطائرات. الديمقراطية للعرب لا تحتاج إلى أكثر من الجمال، فإن عزت الجمال فلا بأس بالحمير.
أشلاء المدن ذات التاريخ المحترقة أطرافها الآن بنار الحصار تتناثر على امتداد الطريق من الفاو إلى أم قصر إلى البصرة إلى الناصرية، سوق الشيوخ، الزبير، الحلة، كربلاء، النجف الأشرف، حديثة، واسط…
وها هي ألسنة النار في الشمال تباشر التهام عواصم الحضارات العريقة، الموصل، نينوى، أور، دهوك وكركوك، تكريت وسامراء، ممتدة في اتجاه بغداد: الديمقراطية تحب العراق محترقاً، ليمكن أن يُعاد إحياء الحرية الآتية من واشنطن على متن ب 52، عبر صواريخ كروز وتوم هوك وطائرات الشبح والأباتشي والكوبرا،
… وبغداد لن ترفع الأعلام البيضاء، حتى لو احترقت.
.. وفلسطين قد احترق معظمها ولم ترفع غير دمها علماً وراية للذين يبحثون عن طريقهم الحقيقي إلى الحرية والديمقراطية والغد الأفضل.