المسافة طويلة بين نيويورك الأميركية وما جرى للدولة فيها، وبين قرية ميفوق في جرود بلاد جبيل، وقبل ذلك في الأشرفية، الخميس الماضي، لكن الأهداف تجمع وتفرض أن تجيء النتائج من صلب الأسباب.
في نيويورك، وفي ظل موقف أميركي غير ودي عبَّر عن نفسه أكثر من مرة في الآونة الأخيرة، أبلغت الأمانة العامة للأمم المتحدة لبنان مضمون القرار المتخذ بفرض »العقوبات« عليه: لا اجتماع للدول المانحة، أقله في المدى المنظور، ولا مساعدات لهذا البلد الصغير المعتز بإنجازه، وهو أنه بصموده وبدماء مقاوميه قد استطاع تحرير أرضه وإجلاء الاحتلال الإسرائيلي، من دون أن يدفع ثمنا سياسيا باهظا يذهب بمعنى سيادته وكرامة شعبه.
أما في الأشرفية ثم في ميفوق، بالأمس، فقد أعلن الخارجون على الحكم تمردهم على أن يظلوا في خانة »الضحية« وسعيهم لإسقاط العقوبة المفروضة عليهم، وعودتهم إلى مواجهته من موقع »الخصم« الآن، مستفيدين من مناخ نيويورك، وواشنطن قبلها، وكذا من ارتباكه الداخلي الذي صوره أقله في الفترة الأخيرة طرفا فهز شبه الإجماع الذي كان يحصن موقعه ويسبغ عليه شرعية لا طعن فيها ولا التباس.
في المبدأ: يفترض أن يلتف الشعب، بجميع تياراته وقواه السياسية من حول الحكم لمواجهة »العقوبات« التي تحاول أن تفرضها على لبنان »الدول المانعة«،
فهذه معركة وطنية، بل وقومية من الدرجة الأولى، تكاد تكون التتمة المنطقية لسيرة لبنان المقاوم المنتصر على فقر موارده وجسامة ديونه على الجبار الإسرائيلي، المعزز بالرعاية الأميركية (والغربية) المطلقة.
لكن الحكم الذي كان يفترض أن يفرِّغ نفسه ويخوض مع شعبه هذه المعركة القاسية، تتويجا للمقاومة الوطنية البطولية، يبدو الآن مشغولاً بكثير من المعارك المحلية المزعجة والمنهكة بتفاصيلها التي لا تنتهي والتي تأكل من رصيده يوميا، وتغري به قوى الاعتراض، التي احتجبت لفترة وما غابت، والتي عادت »طلائعها« إلى السطح الآن مستفيدة من المناخ السائد الذي يوحي لها وكأن ساعتها لفرض نفسها عليه قد حانت، فرفعت أعلامها واندفعت إلى المواجهة… السلمية!
أين ذهب الحشد الذي كان الى جانب الدولة، والذي انتخب هذا الحكم بالاجماع، وكان يفترض ان تواجه به »العقوبات« التي وضعها الأميركيون على لسان الأمم المتحدة، هذا إذا لم يقدر على تعزيز موقعها فيمنع صدورها؟!
أين ذهب الحلفاء الطبيعيون، لا سيما في معركة مجيدة كتحرير الأرض، ومواجهة النتائج السياسية المؤثرة التي لا بد ستترتب عليها؟!
ومن أين جاءت الجرأة لتنظيم حزب »القوات اللبنانية«، الذي يفترض انه »منحل«، لكي ينزل الى الشارع مستنفرا »المحبطين« و»المقاطعين« و»المستنكفين« بشعارات صريحة في خطابها الطائفي الى حد التلويح بالصليب المشطوف شعارا؟!
وهل كان هذا التيار ليستعرض قوته علنا لو لم يكن قد انتبه الى ان الحكم قد استدرج او تورط او انزلق، فوجد نفسه في مواجهة »طوائف« بينما كان هدفه تصفية حسابات معينة او تحجيم »قيادات« معينة، عبر الانتخابات؟
وإذا كانت هذه المواجهات قد انتهت، ولو في ظاهرها ومؤقتا، الى فرض »زعماء« معينين كناطقين رسميين باسم طوائف معينة، فلماذا لا تحاول »القوات اللبنانية« مرة اخرى ان تنتزع لنفسها »الوكالة الحصرية« لتمثيل المسيحيين عموما والموارنة خصوصا، ومن قبل ان تنجح جهود »المصالحة« في اعادة »الخصم المشترك« ميشال عون الى المسرح، وكذلك من قبل ان تنجح عائلة الكتائب المقدسة في استعادة »حزبها« الذي ما ان خرج على طاعتها حتى تفكك وتاه فصار بعضه »اشتراكيا« وبعضه »مرا« وبعضه »حليفا لقاتله«، كما اتهمته ارملة بشير الجميل.
على ان عودة »القوات«، بهذا المنطق، ومن موقع سمير جعجع بالذات، تستهدف الحكم مباشرة، وبشخص الرئيس اميل لحود،
في حين ان المطالبة بعودة ميشال عون من »منفاه« الباريسي تستهدف مصدر شرعية الحكم، وهو اتفاق الطائف، والاصلاحات الدستورية التي انبثقت منه واعادت صياغة المؤسسات ومن ثم الحياة السياسية في لبنان.
لا مشكلة للطوائف الاخرى مع »الدولة« مهما تضخم الخلاف بين اقطابها وبين الحكم، إذ يظل في الاطار السياسي البحت، ولا يتجاوزه الى مصدر الشرعية والاساس الدستوري لوجوده…
ان استعادة الحكم موقعه كمرجع أول، فوق الخصومة والانحياز لطرف ضد آخر، تنهي مشكلته السياسية، مع القوى التي وجدت نفسها في حالة حرب مفروضة فأخذت موقع الدفاع عن النفس متساهلة مع الوهم الذي ساد أو أشيع بأنها حالة دفاع مشروع عن »موقع الطائفة وحقوقها«.
أما مع »القوات«، بشخص سمير جعجع، ومع ميشال عون، فالأمر مختلف جدا. ذلك ان ثمة قتلى ولا بد من قاتل أو قتلة،
وثمة »حالة تمرد« على الأساس الشرعي للدولة القائمة ونظامها ودستورها، وثمة نتائج خطيرة وخسائر فادحة ترتبت على هذا التمرد، ولا بد من »محاسبة« ما، حتى لو انتهت بالتبرئة واعادة الاعتبار!
لقد صارت الدولة، بمختلف مؤسساتها الشرعية، بدءا بقضائها مرورا بالحكومة (الحالية والسابقة) والرؤساء والمجلس النيابي (السابق والحالي واللاحق) في القفص..
الدولة معتدية ومتجنية زورا وبهتانا على سمير جعجع، وهي تسجنه كيديا وكجزء من الحرب على المسيحيين ودورهم وحقوقهم في وطنهم وسلطته!
لكأن الدولة هي قاتلة داني شمعون ورشيد كرامي والزايك وسائر من اتهم بهم جعجع وتنظيمه.
لكأن الدولة، بشخص العماد اميل لحود، الذي كقائد للجيش نفذ القرار الأول باستعادة أملاك الدولة من »القوات«، ثم نفذ القرار الثاني باعتقال جعجع بعد اتهامه بالمسؤولية عن تفجير كنيسة الذوق، والذي برئ منه »للشك« وليس لثبوت البراءة… لكأن الدولة كانت تحارب المسيحيين، بينما التهم التي صدرت الاحكام فيها تطال قتلة أعداء من المسيحيين، قادة او جمهورا في كنيسة.
أو لكأن الدولة اضطهدت و»نفت« ميشال عون بسبب مسيحيته وليس لأنه حاول اغتصاب السلطة فيها، واصطدم عبر الصراع على السلطة مع »القوات« التي كانت تريد السلطة لنفسها، فكان »المسيحيون« هم الضحية بالدرجة الأولى، وان كان سبقهم الى الموت بمدافع الجنرال المهووس ضحايا »حرب التحرير«، وفي الضفة الأخرى من المدينة التي كان يحاصرها القتل: بيروت!
في نيويورك، عدوان أميركي اسرائيلي مفتوح على لبنان، دولة وشعباً، بسبب مقاومته المجيدة وانتصاره بالتحرير على الاحتلال، يتخذ شكل »العقوبات« الاقتصادية، بتعطيل مؤتمر الدول المانحة..
اما في بيروت، او لبنان عموماً، فمعارك داخلية، معظمها مفتعل وغير مبرر، تستنزف الحكم وتضعف الدولة وتغري بها من يطعن في عدالتها وشرعية مؤسساتها، او من يريد وما زال يعمل بعقلية انقلابية لاسقاط النظام.
ولا بد من وقفة انتباه حتى لا تتداخل »معارك« الداخل، وموضوعها »السلطة« واعادة صياغة التحالف بين »رفاق السلاح« من ابناء الصف الواحد، مع »الحرب« الاميركية الاسرائيلية التي تشن على لبنان كله، وتحاول »تأديبه« ومن ثم اخضاعه لشروط »السلام الاسرائيلي«، بحيث يصير جيشه حرساً لحدودها، وشعبه خدماً وعمال بناء وسماسرة ومسوقين لبضائعها ومنتجاتها الصناعية المتقدمة… هذا اذا ما نسينا »الخدمات« الاخرى، الليليلة عموماً، وعنوانها اندية السمر والترفيه وكازينوهات القمار.
الحرب في نيويورك وواشنطن ومع اسرائيل من طبيعية وطنية، بل وقومية،
اما المعارك الداخلية فبعضها »العبثي« يبرر ويسهل لبعضها الاخر المخطط والمقصود. ولا بد للحكم من ان يحسن قراره فيستعيد موقعه الطبيعي مع حلفائه السياسيين لمواجهة هذه »الحرب الصليبية« الجديدة في الداخل، التي عنوانها »الظلم« بينما مضمونها الانقلاب الكامل على الشرعية القائمة التي اذا لم تحسن تحصين نفسها سيتجرأ عليها اكثر فأكثر المرتكبون وناقضو شرعيتها.
هذا مع التنويه بان السلطة، ولو اخطأت التقدير او التصرف، تظل هي السلطة الشرعية، واخطاؤها لا تبرر »العفو« عن المدانين قانوناً، وبعد محاكمات علنية، او الهاربين من المحاكمة خوفاً من الادانة والذين يطمحون الان للعودة كمحررين… من اتفاق الطائف ونظامه القائم!
فالرد على هؤلاء بالسياسة وبالعدالة وبالنظام وليس بالامن والحواجز العسكرية والتدابير الزجرية التي تضفي عليهم المزيد من ملامح الضحية بينما الدولة بكل من وما تمثل هي الضحية والهدف المباشر لرصاص هؤلاء »المظلومين«.