طلال سلمان

بين مجزرة رياض وانجاز مقاومة عمى سياسي في خدمة احتلال

المصادفة قدرية في تزامن الحدثين المتناقضي الدلالة: المجزرة في الرياض، وصفقة تبادل الأسرى بين »حزب الله« والعدو الإسرائيلي..
؟ الحدث الأول يتمثل في جريمة القتل الجماعي العشوائي التي فجّر فيها مهووسون بالعنف ومبتلون بالعمى السياسي حياً سكنياً في مدينة الرياض، بجموع المقيمين فيه من المهندسين والخبراء والتقنيين والصنّاع، جلّهم من الصنّاع العرب الذين قصدوا السعودية لكي يعطوا أخوانهم فيها ثمرة عقولهم وجهد السواعد، بدل أن يهاجروا بها إلى »العالم الجديد«… وقد اختاروا لمذبحتهم هذه منتصف شهر الخير والبركات رمضان »الذي أُنزل فيه القرآن«..
ونفترض أن دماء اللبنانيين من بين الضحايا العرب الذين أودت بحياتهم هذه الجريمة البشعة، إنما تعطينا حقاً شرعياً في مناقشة صريحة حول »الجاني« المجهول المعروف، وحول الأبعاد السياسية لهذا الحدث، وهي بمجملها خطيرة بتأثيرها السلبي على الحاضر والمستقبل، على النظام وعلاقاته الدولية، لا سيما بالإدارة الأميركية، وحول النظام وعلاقته بالشعب، والتي لم تكن سليمة حتى باعتراف أركان الأسرة الحاكمة ممن أجروا نوعاً من النقد الذاتي، ثم حاولوا وتحركوا في خطوات مترددة نحو شيء من »المشاركة« ولو الرمزية في ظل ضغط أميركي معلن سرعان ما أعيدت صياغته على شكل »تشجيع« و»ترحيب« ولو متحفظاً.
ذلك أن الاستنكار، وهو بديهي، لا يخفف من وطأة الشعور بالنقد، هنا.
كذلك فإن التعهد بتشديد القبضة الحديدية حتى لا تتكرر المأساة، لا يعفي من ضرورة البحث عن أفق سياسي مفتوح للنقاش، ومن ثم للحلول، بعدما ثبت أن التدابير البوليسية وحدها لا تكفي، هناك، حتى لو شاركت فيها أجهزة المخابرات الأميركية التي تتزايد باستمرار، والتي بات جهدها يتركز على أرض العرب (والمسلمين) ومن حولهم.
فالهدف المباشر لهذه العملية التي لا يمكن وصفها إلا بالمذبحة، هو القتل ثم القتل ثم القتل، من دون أن يتعب المخطِّط لهذه الجريمة أو المنفِّذ في تحديد ضحاياه… وتزايد عدد القتلى والجرحى وتعاظم حجم التدمير ونشر الذعر والرعب وإشعار الجمهور بعجز السلطة عن حماية ذاتها، فكيف بحماية مواطنيها أو ضيوفها والعاملين في خدمة بلادها، كل تلك أهداف سياسية، لا تكفي الشرطة لإحباطها ولو استخدمت الحوّامات والأشعة فوق البنفسجية أو تحتها والتوقيف العشوائي للمشبوهين أو أخذ الرهائن من أقارب من يفترض أنهم المخططون أو المنفذون.
؟ أما الحدث الثاني فيتمثل بإعلان حكومة السفاح أرييل شارون قرارها بالموافقة (ولو بأكثرية صوت واحد) على صفقة تبادل الأسرى والمعتقلين في السجون ومعسكرات الاعتقال الإسرائيلية من المجاهدين الفلسطينيين والأردنيين والمصريين إضافة إلى اللبنانيين، وعلى رأسهم »عميدهم« سمير القنطار، مع الأسرى من الجنود الإسرائيليين لدى »حزب الله«، وهي المعركة التي خاضت قيادة المقاومة الإسلامية في لبنان غمارها بكفاءة سياسية عالية، فحققت فوزاً باهراً في جولة حاسمة من جولات الحرب المفتوحة ضد العدو، فكان نصراً سياسياً مؤزّراً وله ما بعده في سياق الصراع العربي الإسرائيلي، الذي لا تعرف له نهاية محددة أو نقطة ختام معلومة.
المصادفة القدرية تفرض المقارنة المدققة بين »العمليتين«: تفجير المجمع السكني في الرياض على رؤوس قاطنيه من أصحاب الخبرات العربية الذين يسهمون بجهدهم في بناء المنشآت والمستشفيات والمباني والمدارس والمستوصفات والمصانع إلخ تحت شعارات مطلقة ومبهمة، بل ومن دون تبنٍ صريح من قبل »أبطالها« وإعلان المخططين والمنفذين هويتهم ومن ثم أهدافهم التي تستدعي هدر كل هذا الدم وتبرر كل هذا القتل.
… وإجبار العدو الإسرائيلي على القبول بما كان يرفضه بالمطلق، عبر قراءة دقيقة لظروفه السياسية وصراعات القوى داخله، والإحراجات الدولية التي يتعرض لها وهو يندفع بوحشية الى محاولة تصفية قضية فلسطين عبر »تصفية« شعبها ومصادرة أرضه ومحاصرة »سلطته«، بالقتل اليومي والهدم المتواتر للبيوت ومخيمات اللجوء والمرافق العامة والمنشآت الخاصة، وكذلك بجدار الفصل العنصري الذي يفرض على الفلسطينيين الموت البطيء بصمت في »معازلهم« التي يتعامى العالم عن رؤيتها برغم »خريطة الطريق« التي رسمها الرئيس الأميركي جورج بوش تنفيذاً »للرؤيا« التي خصّه بها الله عزّ وجلّ.
المصادفة تفرض المقارنة، وتفرض بالتالي الاستنتاجات المنطقية ومنها:
في عملية الرياض يتبدّى »الخطأ السياسي« مدمراً، لا سيما إذا تمت ملاحظة أبعاده الدينية والقومية والحضارية، هذا فضلاً عن توقيته الذي تكاد تقول النتائج المأساوية وكأن »العدو« هو الذي اختاره… فهو نموذجي لمن يريد أن يخدم أو يحقق جملة من الأغراض والأهداف الاستراتيجية لمشروع الهيمنة الأميركية على المنطقة، سواء بالاحتلال العسكري المباشر، كما في العراق، أم بتدجين مجموعة من الأنظمة الحاكمة التي كانت في موقع »الحليف« وباتت بعد نزول العسكر فوق أرضنا أقرب إلى »الخادم المطيع« مقابل الحماية، لا يطلب إلا الأمان وحفظ رأسه من الخطرين: الغضب الأميركي المقدس والانتفاضة الشعبية المحتملة.
حاشية: الطريف هنا أن »الحليف« الأميركي بات يهدد »حليفه« القديم، المستضعف الآن والمرتهنة إرادته، بهذه الانتفاضة الشعبية، ويطالبه بإشراك الشعب في السلطة واعتماد قدر من الديموقراطية المعلّبة كالتي في مصر أو في الأردن وأقطار شتى..
* * *
لا المواعظ تفيد ولا الإدانات المعنوية لهؤلاء القتلة الذين يرتكبون المجازر الجماعية، ويسفحون دماء الأطفال والنساء، والأبرياء عموماً، بلا رحمة، تعيد الضحايا إلى الحياة.
لقد تأخر العلاج كثيراً حتى استشرى سرطان العمى السياسي المسلح فبات قاتلاً.. للسياسة بل وللأوطان!
وقد تأخر هذا العلاج حتى صار دليل إدانة في يديّ من يعطي نفسه الحق في محاسبة خلق الله جميعاً، وكأنه مثل الإسرائيلي وكيل الله سبحانه وتعالى على الأرض ومنفذ إرادته.
الكل محاصر بين استحالتين: لا النظام قادر، بآلياته القديمة وضوابطه الكثيرة المغلّفة بالشعار الديني، على مواجهة القتلة الذين يعتبر العالم أنهم إنما خرجوا من صلبه، ولو ظلوا أبناءً غير شرعيين.

ولا هؤلاء القتلة أصحاب مشروع للتغيير بنظام أفضل، أكثر عدالة وأكثر احتراماً لإنسانية الإنسان ومن ثم لحقوقه.
ولا الأميركي الذي كان جانياً فأعطاه هؤلاء القتلة فرصة الظهور بمظهر »الضحية« قادر ومؤهل على أن يوفر الحماية لبلاد الآخرين، إلا بالاحتلال لتأمين مصالحه الاقتصادية والسياسية، بالنظام القائم طالما هو قادر على أداء وظيفته، وبغيره متى عجز.
للمناسبة: ليست بلا دلالة تلك التدابير والتعليمات التي أعلنتها الإدارة الأميركية (والبريطانية) محذّرة فيها رعاياها من السفر إلى السعودية، ثم من التجول داخل المدن الكبرى في المملكة، بما فيها العاصمة… فهل كانت تعرف أكثر من سلطات البلاد؟ وهل حجبت بعض معلوماتها عنها؟
إن مثل هذه العمليات هي إرهاب بالمطلق.. (فكيف يكون الإرهاب إن لم يكن القتل الجماعي العشوائي، بغير تمييز، ومن دون إعلان هدف سياسي يستأهل تحقيقه كل هذه الدماء والضحايا من الأبرياء)…
ومثل هذه العمليات إنما هي »تزكية« دورية للاحتلال الأميركي الذي يفرش ظله على الجزيرة العربية جميعاً، انطلاقاً من العراق، وقواعده المنتشرة في معظم تلك الأرض… فهي كلما رفع الناس أصواتهم بالاعتراض على دوره الاستعماري الصريح، جاءت »تبرّر« اضطرار الأنظمة إلى التسليم بوجوده أو طلب حمايته من »العدو المشترك« لهم جميعاً… وللناس معهم!
بل إن مثل هذه العمليات تدفع بالإسلام، كدين، إلى موقع ضعف، فتصوّر الشريعة السمحاء وكأنها مصدر الفتوى بقتل النساء والأطفال والرجال الذاهبين لبيع عرق جباههم من أجل حياة أفضل.
.. كما أنها تدمغ المسلمين بالإرهاب، وتبرّر بنسبة أو بأخرى الهجمة الضارية عليهم وتكاد تبرّر زلة اللسان الرئاسية حول »الحرب الصليبية« الجديدة.
* * *
صار خبر الجرائم الإسرائيلية ضد شعب فلسطين »ثانوياً«! بالكاد يجد له مساحة في الصفحات الداخلية من الصحف أو في آخر نشرات الأخبار… الفضائية!
بل إن »المقارنة« المحتملة تأتي لمصلحة الإسرائيليين!! فدبابات الاحتلال الإسرائيلي تهدم بيوت الفلسطينيين، ولكن بعد إخلائها من أهلها..
ويومياً يقتل الإسرائيليون، جنوداً ومستعمرين، بعض الرجال أو حتى بعض الأطفال من الفلسطينيين، عبر هجوم عسكري مباشر، وأحياناً معلن مسبقاً ومرفق بمنع تجول يخفف من الضحايا (حرصاً على سمعة إسرائيل، جيشاً و»شعباً«..).
أما عمليات القتل الجماعي هذه التي يرتكبها سفاحون يتلفعون بالعتمتين، عتمة الشعار السياسي وعتمة الليل، فكأنها تستهدف القتل للإرهاب، وقتل المدنيين بالذات، وغير السعوديين في الغالب من ضيوف المملكة والعاملين فيها.
إنها ليست حرباً، وليست مقاومة، وليست جهاداً من أجل الدين الحنيف، بل هي أقرب الى الحرب على الدين والمؤمنين جميعاً.
إنها تشويه لتاريخ الجهاد وإساءة بالغة إلى الإسلام.
فلم يكن قتل الأطفال والنساء والرجال الآمنين في بيوتهم، في ظل الهدأة الرمضانية، برنامجاً للحكم في أي زمان أو مكان.
ولا يستطيع »أشباح القتلة« تقديم أنفسهم باعتبارهم المؤهّلين للحكم في أي زمان ومكان.
إن هؤلاء القتلة إنما يوجّهون رصاصهم إلى العروبة والإسلام، ويحقّقون ما عجز عنه الاحتلال الإسرائيلي والاحتلال الأميركي معاً: إنهم يدفعون الناس إلى الهرب من انتمائهم إلى أرضهم ومقدساتهم وبشرتهم السمراء.
إن هؤلاء القتلة هم موضوعياً حلفاء حقيقيون وفعّالون لمن يدّعون أنهم »يجاهدونهم«.
إنهم إنما يقتلون »الجهاد« مرتين: مرة برفع شعاره زوراً وبهتاناً، ومرة ثانية بتسخيره لتبرير ظلم الظالم واحتلال المحتل.
والنموذج الصح للجهاد معروف، كما الحق، والنور، لمن أراد أن يهتدي إليه.

Exit mobile version