طلال سلمان

بين بابا «لبنان رسالة» وبابا «مستقبل شرق اوسط»

لن يجد البابا بنديكتوس السادس عشر في لبنان، الذي يصله يوم الجمعة المقبل، ما وجده فيه وعليه سلفه الراحل البابا يوحنا بولس الثاني حين جاءه في الرابع عشر من أيار 1997: لقد اختلفت الأحوال في الوطن الصغير، بداية، واختلفت في جواره الأقرب، وفي المحيط من حوله، اختلافاً جذرياً، واكتسبت التحولات طابعاً مأساوياً ينذر بتفجر حروب أهلية مفتوحة، بشعارات دينية وطائفية مموهة… وربما لهذا فإن الزيارة الجديدة لبنانية العنوان ولكنها تتجاوز لبنان بأهدافها ومراميها إلى «الشرق الأوسط الجديد» بأقطاره جميعاً، وبهدف معالجة شاملة لأوضاعها المتفجرة عبر سينودس يتخذ من بيروت منطلقاً ومنصة.
هل من الضروري التذكير ان دولة الفاتيكان تمتلك أوسع جهاز لجمع المعلومات وتحليلها في العالم كله، وان فيها دوائر متخصصة لا تحصر اهتماماتها في الشأن الديني بل هي تتجاوزه إلى متابعة التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ودلالاتها وموقعها على خريطة التأثير في القرار الدولي؟!
وأن يجيء البابا إلى لبنان، وفي هذا التوقيت بالذات، وبينما المشرق العربي، بل الوطن العربي جميعاً، يمور بالانتفاضات الشعبية وحركات الاعتراض على الأنظمة القائمة، بكل تداعياتها المحتملة على الدول المعنية ثم على المنطقة جميعاً، فإن أهداف زيارته تتجاوز بالتأكيد «الحالة اللبنانية» لتستقرئ مسار الأحداث من حوله وانعكاساتها عليه، مع رسالة تطمين تفيد بأنه ليس منسياً وليس متروكاً للريح أو لقياداته العبقرية التي تكاد تدفع به دفعاً… إلى الهاوية!
سهل القول إن البابا بنديكتوس السادس عشر يريد بزيارته لبنان ان يطمئن المسيحيين في المشرق جميعاً إلى أنهم ليسوا منسيين، وإلى ان أوضاعهم موضع عناية واهتمام الفاتيكان، فضلاً عن «الدول» غرباً وشرقاً، من ضمن الاهتمام بمسار التحولات التي تجتاح المنطقة جميعاً وتبدل في الأنظمة والأحوال السائدة بما يتجاوز بل ويتناقض أحياناً مع شعارات ميادين الثورة.
لكن الأجدى بالتفكير أن نستقرئ الأهداف الأبعد لهذه الزيارة الاستثنائية في موعدها وفي هدفها المعلن عبر عنوانها «الشرق الأوسط الجديد» والسينودس المخصص لمناقشة التحولات فيه، والتي اختار البابا ان تكون بيروت عنوانها.
لقد جاء، من قبل، البابا يوحنا بولس الثاني إلى «لبنان ـ الرسالة» فوجده موحداً، إلى حد كبير، بعد تسوية سياسية لعهد من الحرب ـ الحروب الأهلية ـ اللبنانية ـ العربية بإشراف دولي مباشر… وهي حرب بل حروب استهلكت الشعارات الدينية والطائفية والمذهبية قبل ان تستقر على صيغة لتقاسم السلطة في ظل ضمانات عربية (سورية أساساً ومعها السعودية) ودولية (فيها الولايات المتحدة أساساً ومعها دول أوروبا، ومن ضمنها الفاتيكان).
لكن المنطقة العربية اليوم غيرها قبل خمس عشرة سنة: لقد اختلفت الأحوال فيها جميعاً، تقريباً، عما كانته في العام 1997.
كانت سوريا، الراعي والضامن يومها، دولة قوية وصاحبة دور يصعب تجاوزه، بل لا بديل منه، شعبها واحد موحد، ونظامها أحد اللاعبين الكبار في المنطقة، وقد سلم بدورها الغرب والشرق، العرب والعجم والترك، ومن كانت له «تحفظات» فضل طيها وأرجأ طرحها حتى لا يتسبب في تخريب «تسوية عبقرية» يرعاها الكون جميعاً وقد اتخذت «اتفاق الطائف» أساساً بالإشراف السوري المباشر.
اليوم تكاد سوريا ان تكون في وضع مماثل للبنان خلال دهر الحرب الأهلية: تتفجر جنباتها جميعاً، بمدنها ذات التاريخ وعاصمتها التي كانت عاصمة العالم ذات يوم، بالصدامات الدموية وتفجيرات القتل الجماعي وكوارث التهجير الواسع لأهلها في الجهات جميعاً، نحو تركيا والأردن ولبنان والعراق، وقد تم زج الجيش بأسلحته جميعاً، بما فيها الطيران، في معارك مفتوحة بين النظام وأشتات من المعارضات تختلط في صفوفهم قوى وطنية تطلب الإصلاح لحماية الوطن والدولة وجماعات مستولدة حديثاً، فيها الأصوليون والسلفيون والمتمردون والمستفيدون من الفوضى للنهب والسلب وسرقة الآثار التي لا مثيل لها في الأرض الأولى للتاريخ الإنساني، وهي ترفع شعار إسقاط النظام ولو بالحرب الأهلية.
باختصار فإن البلاد التي كانت نموذجاً للمنعة بفضل الوحدة الوطنية الراسخة فيها تكاد تتمزق في آتون صراع دموي قاتل يهدد بتمزيق وحدة الشعب والوطن ودولته وينذر بوضع مصيرها ـ كما لبنان من قبل ـ في أيدي «الدول» تقرر فيه ما يناسب مصالحها.
ومفهوم ان يطرح على هامش هذا الصراع، ومن جديد، «مصير الأقليات المسيحية» في المنطقة… خصوصاً مع سابقة تعرض المسيحيين في العراق، والأرجح بقصد مقصود، وعلى أيدي تنظيمات بل عصابات مشبوهة لخطر القتل والتنكيل، والذين هب الغرب جميعاً، والفاتيكان في الطليعة، لتنظيم رحيلهم عن وطنهم الذي كان لهم وكانوا له منذ فجر التاريخ الإنساني، إلى بعض دول الغرب الأميركي والأوروبي.
وها نحن أمام طلائع حملة منظمة في اتجاه «مسيحيي سوريا»، مع الأخذ بالاعتبار ان مسيحيي لبنان كانوا الأسبق في الانتظام طلباً للهجرة، وكأن، مسلميه يعيشون في خيمة أمان مطلق في الوطن الصغير الذي يمضي أيامه مضطرباً في قلب العاصفة.
وهكذا يتم الخلط بين «مصير المسيحيين» في كل من العراق وسوريا ولبنان، الذين يعيشون في ظلال الخوف مثل سائر إخوانهم في الوطن، وبين الخطة المنظمة التي يعتمدها العدو الإسرائيلي منذ عقود لتهجير الفلسطينيين من وطنهم الذي لا وطن لهم غيره، والتي «نجحت» نجاحاً خطيراً، إذ غادرت الأكثرية الساحقة من المسيحيين الفلسطينيين أرضها التي كانت دائماً أرضها، إلى المهاجر في الغرب الأميركي ـ الأوروبي.
[ [ [
يبقى ضرورياً ان نتوقف بالاعتراض أمام تصرفات غير مسؤولة لبعض «كبار» السياسيين و«القادة» في لبنان، بينهم أركان في الدولة، وبينهم أركان في المعارضات المختلفة، ولكنها جميعاً تستهدف تأجيج نار التعصب الذي يأخذ إلى الفتنة وتدمير الذات.. والدولة والوطن!
وإذا كان بعض هؤلاء قد جعل من مؤسسة رسمية داراً للصلاة، ذات يوم، فإن آخرين يجتهدون في اتخاذ بعض أركان المقار الرسمية كدار عبادة.
على ان الطبقة السياسية برمتها تتنافس في استخدام الخطاب الطائفي والمذهبي لأغراض شخصية، بعضها انتخابي، وبعضها الآخر نزولاً عند طلب بعض «الكبار» في الخارج، متجاهلة المناخ المسموم السائد في المنطقة، بتحريض مكشوف، والذي يخدم إسرائيل بداية وانتهاء، والذي يسرع في تدمير الدول والأوطان القائمة… ولا بديل، في المدى المنظور.
انه سباق إلى تدمير الذات، نتمنى ان توقفه زيارة البابا وخطبه وتوصياته، خصوصاً ان لا دين للخطأ فكيف بالخطيئة!
وكثير من أهل النظام السياسي يرتكبون الخطيئة المميتة بحق أوطانهم ودولهم وشعوبهم.

Exit mobile version