طلال سلمان

بيان جيد ولكنة لا يكفي

لنتفاءل، مفترضين أنها بداية، مجرد بداية هادئة ومتواضعة (قياسا إلى المطلوب) لمرحلة جديدة من مراحل المواجهة السياسية مع »العدو« الإسرائيلي، الذي لم يعد »عدواً« لنحو الثلث من أعضاء المجلس الوزاري لجامعة الدول العربية الذين لبّوا نداء الدم اللبناني فجاؤوا بيروت ليؤكدوا فيها ومعها ومنها التضامن بالمحسوس!
لنسجل الايجابيات، ولنفرح بهذا التحول النوعي في »اللغة«، كتعبير عن تلويح بإمكان تعديل الموقف المستكين والمستسلم للمنطق الإسرائيلي الدائم مع العرب: اضرب أكثر تأخذ أكثر!
لنفرح بأن الدول العربية ممثلة باثنين وعشرين وزيرا قد أقرت خمس نقاط مبادئ:
أ »الدعم المطلق للبنان في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي حتى تحرير كامل التراب اللبناني«،
(حتى لو كان الدعم مخففاً بتبريرات قانونية أكثر منه بموقف قومي مبدئي).
ب »دعوة الدول العربية التي تقيم علاقات مع إسرائيل، في إطار عملية السلام، إلى إعادة النظر في هذه العلاقات بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان«..
(حتى لو كنا نعرف أن أياً من تلك الدول لا تملك ولا هي مهيأة للقطع مع إسرائيل، أقله في الوقت الحاضر، بل هي تستخدم هذه الدعوة للضغط من أجل تسريع التسوية، وليس للعودة الى ميادين القتال الذي صار أو يُراد له أن يصير من الذكريات السوداء للماضي الذي تريد الأكثرية أن تنساه..).
ج »دعوة الدول التي تشارك في المحادثات المتعددة الأطراف الى الامتناع عن مشاركتها هذه، الى ان يتحقق تقدم جوهري وملموس على جميع المسارات«..
(حتى لو كنا نعرف انه من المستحيل إنجاز تلك المحادثات في غياب لبنان وسوريا، وهما طرفان يملكان موضوعيا حق النقض، وقادران على تعطيل أية نتائج تصدر في غيابهما.. وعلى حسابهما).
د »التأكيد على تلازم المسارين اللبناني والسوري، لما فيه من خدمة المصلحة اللبنانية والسورية.. الخ..«.
(حتى لو كنا نعرف ان الإقرار العربي بهذه الحقيقة السياسية يجيء متأخرا عن موعده، وأنه يحتاج الى اعتماده سياسة رسمية وتوكيده أمام »المرجعية« المعنية بعملية التسوية، والالتزام بمنطوقه فعلاً، بحيث تتوقف همسات التحريض على فك المسارين التي حاولت حتى الأمس ان تصور للبنانيين ان التلازم إنما يتم على حسابهم… فالانسحاب الإسرائيلي حاصل حاصل، فلماذا ربطه بموضوع معقد كالجولان، ولماذا يدفع لبنان من دمه ثمناً لتحرير أرض أولئك الذين يدفعون غيرهم ليقاتل نيابة عنهم)!!
ه »التأكيد على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم ورفض توطينهم خارج فلسطين، والتحذير من أن عدم حل قضية اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان على قاعدة عودتهم الى ديارهم، يبقي هذه القضية بمثابة قنبلة موقوتة تهدد الأمن والاستقرار في لبنان وتعيق تحقيق السلام العادل والشامل في المنطقة«..
(حتى لو كنا نعرف أن العرب لا يملكون القوة اللازمة لتحقيق مثل هذا الهدف السامي… إلا أن النص عليه، وبهذا الوضوح، يريح اللبنانيين جميعا، وينزع فتيل فتنة يسعى لتفجيرها بعض من أعماهم الغرض والارتباط بالعدو أو التعصب الذي يصب مزيدا من المياه في طاحونة العدو.)
* * *
مع ترحيبنا بالمضمون العام لبيان المجلس الوزاري العربي فلقد كنا نتمنى لو تقدم من الإشادة بالمقاومة الباسلة في لبنان، بصيغة عامة ومخففة، إلى تبني هذه المقاومة التي أضاءت بالدم ألف نجمة وقمر في قلب هذا الليل العربي الساجي، والتي باعتراف العديد من الوزراء قد استولدت موجة من الانتعاش وأعادت الاعتبار إلى المواطن العربي في أرجاء هذا الوطن الفسيح، كافة.
ومع ابتهاجنا بالبند الخاص »باستنكار التصريحات التي أدلى بها بعض مسؤولي دول صديقة في أعقاب العدوان الإسرائيلي الأخير والتي سادت بين إسرائيل المعتدية ولبنان المعتدى عليه، والتعبير عن الدهشة والاستغراب لصدور مثل تلك التصريحات«… فقد كنا نتمنى لو جاء النص أقوى وبمستوى التجني الخطير على المقاومة (ومجاهديها) واتهامها بالارهاب.
إن دمغ المقاومة بالارهاب، من طرف مسؤولين كبار، أميركيين (مادلين أولبرايت) وفرنسيين (ليونيل جوسبان)، لم يكن زلة لسان، بل هو جزء من منطق »إرهابي« حقيقة يبرر إرهاب الدولة (الإسرائيلي) وينكر على المحتلة أرضه حق رفع السلاح بوجه عسكر الاحتلال.
وهذا المنطق لا يعبّر نفسه فقط في الموقف من المقاومة بل هو يمتد »ليدين« الصمود ورفض الصدوع لمنطق الاحتلال الإسرائيلي، والإصرار على التمسك بالتراب الوطني، وليبرّر للاحتلال جرائمه جميعا من قتل الأطفال والنساء والشيوخ والرجال إلى قتل النور والجسور وسائر أسباب الحياة… وانتهاء بقتل مشروع التسوية المقبولة (وبالاضطرار، عربيا).
لذا كنا نأمل ان يكون البيان تعبيرا عن الاحتضان الجدي للمقاومة أكثر منه تحية لها.
* * *
طبعا، سيلوي كثيرون في بيروت وعواصم أخرى أعناقهم وقد يمطون شفاههم وهم يقرأون البيان الختامي للمجلس الوزاري، عدا عن التصريحات الغزيرة (والمتشابهة) لوزراء الخارجية العرب الذين لبوا نداء لبنان فجاؤوه متضامنين،… ولقد يقول بعض الذين لم يعجبهم البيان: هذا كلام مكرر ومعاد سبق ان سمعناه أكثر من مرة، فأين الموقف العملي؟! أين المساعدات المقررة في أكثر من قمة وأكثر من مجلس وزاري للجامعة، والتي أشير إليها في البيان الجديد بوضع إحدى اللازمات الدائمة للمقررات التي لا تنفَّذ؟!
ولا يكفي للرد على هذه التساؤلات القول: إن العرب قد أعطونا في بيروت موقفا سياسيا قويا، بمعايير الجامعة أو اللقاءات العربية عموما.
وعلى أهمية الموقف السياسي فإن ترجمته الفعلية لا تنفصل عما يترتب عليه من مسؤوليات مادية مباشرة.
وإذا كان لبنان الرسمي قد حرص على ألا يركز على ضرورة وفاء اخوانه بالالتزامات التي أخذوها على أنفسهم قبل عشرين سنة أو يزيد، فإن هذا التعفف أو التخفف من احتمال إحراج الوزراء الذين أعطوا أقصى ما يملكون، أي الموقف، لا يعني إعفاء الدول العربية من التزاماتها هذه، أو اعتبار المستحقات ديونا هالكة!
»إنه جنوب العرب، إنها مقاومة العرب، إنها شرف العرب«
هكذا وصفوا المقاومة الباسلة في لبنان، أو لبنان المقاومة والصمود.
وعيب أن يذلوا هذا الصمود العربي، هذا الشرف العربي، هذه المقاومة العربية، بجعلها تمد يدها، خصوصا أنهم يعرفون أنها لن تمدها، لا رسميا ولا بشكل موارب.
وما زلنا نأمل أن يتولى الملوك والرؤساء العرب »ترجمة« كلام وزرائهم، وتحويله إلى »فعل« يوفر على لبنان كرامته عبر مساعدته بغير طلب، ويوفر لهم شرف المساهمة في مجد الصمود وعزة التقرب إلى المقاومة في عصر الانهيار.
في أي حال، شكراً لما أعطى العرب شقيقهم المقاوم.
إنه أمر طيب، ولكنه لا يكفي.
ونحن نطلب لهم شرف المشاركة، ولا نطلب لنا ذل السؤال. ونفترض أنهم يعرفون أن المقاوم الذي يبذل دمه لحماية شرف الأمة لن يمد يده بطلب بعض القروش، ولو ثمنا لرصاصه.
أما الموقف الأساسي من العدو الإسرائيلي فله حديث آخر!

Exit mobile version