لم يتوقف مواطن واحد أمام خبر توقيف الوزير السابق للنفط متشككاً، أو مشفقاً، ناهيك بأن يتورط في محاولة الدفاع عنه.
لا يحتاج المواطن إلى أدلة جديدة لتوجيه الاتهامات إلى سلسلة طويلة من المسؤولين الكبار، والسياسيين منهم على وجه التحديد. إنه بالكاد يسلّم ببراءة بعضهم. وهو يكفيه أن يأخذ فقط بالاتهامات التي تبادلها هؤلاء في السنوات الأخيرة، حين اندفع كل منهم يرمي الآخر ليحمي ذاته، أو ربما ليوسع دائرة المتهمين بحيث يضمن السكوت عنهم مجتمعين.
يعرف المواطن، وأحياناً بالدليل القاطع، أن كثيراً ممن تعاقبوا على الحكم كانوا فقراء فاغتنوا أو اقتنوا القصور واليخوت والرياش الفخمة، وليس ثمة مصدر لثرائهم إلا ماله.. أي المال العام!
ويعرف المواطن، ولو بغير دليل، أن ثمة تواطؤاً كان قائماً بين هؤلاء، ولعله ما زال، فلا يفضح واحدهم الآخر حتى لو اضطر إلى التلميح بفضحه إما ليعطيه حصة وإما ليسكته عنه..
لذا فإن رد الفعل الأول اتخذ شكل التمني: لعلها الخطوة الأولى. لعلها تكون البداية المرتجاة للإصلاح الحقيقي.. فليس من العدل أن نحاسب موظفاً هو في النتيجة مأمور أو مرؤوس ثم نغض الطرف عن الفاسد الأكبر والمفسد الأكبر الذي أمره أو استخدمه للتغطية، وبالتزوير غالباً، على صفقاته ونهبه المنظَّم للمال العام.
الإصلاح السياسي هو المطلب،
كيف يتم الإصلاح السياسي بسياسيين فاسدين ومفسدين؟!
ومن هنا توالت الأسئلة: هل ستكون محاكمة هذا الوزير (السابق) بداية المحاسبة الشاملة؟ هل ستتوقف عنده وتكتفي به، وتصبح محاسبة لشخص فرد، أم تكون محاسبة لنموذج يمثل الآخرين ويوصي بتوسعها لتشملهم؟! أم أنها محاسبة لطبقة سياسية كاملة كان لها ما يماثلها قبل الحرب الأهلية وقد تنامت وتعاظم دورها في ظل تلك الحرب، ثم تعاظم نفوذها وتوالدت ثرواتها في ظل »السلم الأهلي« وبفضله؟! كما السحر: مبالغ فلكية في فترة زمنية قصيرة جداً؟!
وكيف تتصرف هذه الطبقة؟!
هل تصمت وتخفي رأسها بين كتفيها حتى تمر العاصفة؟!
أم أنها تسارع إلى إدانة مَن سقط بالمصادفة أو بالقصد والتبرؤ منه لتفتدي نفسها به؟!
إن شيئاً من الذعر قد بدأ يدب في أوساط »زملاء« الوزير المتهم.
ومن المنطقي أن يتحول الذعر الى شيء من التواطؤ بين المتهمين الآخرين المحتملين، والثابتة ارتكاباتهم والمعروفة صفقاتهم، على التخلص من هذا »الغبي« الذي لم يعرف كيف يخفي آثار جريمته فتورط وورّط »قبيلته« السياسية كلها، وعليها أن تتخلص منه وأن تعلن نبذه، كما تقدم »القبيلة« على قتل البنت الخاطئة ثم تتوهم أو توهم الناس أنها قد تطهرت بالتخلص من العار!
إن تصغير حجم الواقعة بقصد حصرها في شخص واحد جريمة إضافية، لأنها تبرئ أمثاله، أو شركاءه المفترضين، لا سيما الكبار منهم..
كذلك فتكبير حجم الواقعة بحيث تشمل التهمة »جميع« السياسيين والمسؤولين منذ الاستقلال حتى اليوم، مروراً بالعهد الماضي، لا يعني غير طلب التبرئة للجميع، لأن محاكمة الأموات مستحيلة، ثم انها لن تجدي نفعاً في استعادة المال العام المنهوب.
المهم ألا يتحول الوزير قيد المحاكمة إلى ما يشبه »حمار الدير« في الحكاية الشعبية المعروفة..
والمهم ألا تتوسل المحاولات لتبرئة مسبقة لهذا الوزير الضرب على نغمة »عنصره«، والدفاع عنه بذرائع ساقطة من نوع: انهم استضعفوه لأنه أرمني!
فالتهمة، أولاً وأخيراً، شخصية، ولرجل بالذات كان في موقع محدَّد يسمح له بتمرير المخالفات، إذا ما أراد تمريرها.
ولا علاقة للأرمن، كما لأي فئة أخرى، بارتكابات شخص استغل منصبه لأغراض خاصة ومنافع خاصة على حساب الناس جميعاً.. بمن في ذلك الأرمن.
المحاسبة لوزير سابق استغل منصبه وخالف القانون، وليس اتهاماً لهوية معينة او استفراداً لعنصر… ولم يُعرف عن الأرمن، عموماً، إلا كل ما يؤكد التزامهم بالقيم والأخلاق والقانون. والأرمني شهير بعصاميته كما بإصراره على أن يأكل خبزه بعرق جبينه وأن يكون ربحه حلالاً.
وليس ضرورياً التذكير بأن الاعتراض الأرمني منع المتهم من أن يكون نائباً، وأن توزيره قد تمّ برغم الاعتراض الأرمني على توزيره.
المهم أن تكون بداية، وألا تُرتكَب أخطاء أو هفوات تجعلها »نهاية المحاسبة« أو تعطِّل مسيرة الإصلاح السياسي، كما أربك التعجل مسيرة الاصلاح الاداري.
وفي أي حال فإن الإصلاح السياسي هو الغاية،
وهذه الواقعة تؤكد ضرورة ما لا ضرورة لتأكيده.
وهي خطوة واسعة للعهد على الطريق الصحيح.