طلال سلمان

بعث حزب بعث

حزب البعث يحتاج إلى.. »بعث« جديد يعيده »حزباً« ويعيد تحديد علاقته بالسلطة: هل هو الحزب الحاكم، كما ينص الدستور والمواثيق، أم هو »حزب الحاكم«، كما يفيد الواقع أو يكاد؟
فالمؤكد أن حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يفتتح اليوم في دمشق أعمال مؤتمره التاسع في جو من الحداد والتحدي، قد بلغ سن الكهولة، إذ يقترب من عامه الستين، إن نحن أخذنا بالاعتبار البدايات التأسيسية في مستهل الأربعينات.
لقد مرّت خمس عشرة سنة مثقلة بالأحداث وبالتحولات منذ آخر مؤتمر له (1985)، وهو مؤتمر انعقد في ظل »حركة تمرّد« لا تُنسى (رفعت الأسد)، ولعلها قد فرضت جواً من »التسوية« منعاً لصدام واسع بين الأخوة والرفاق،
وبين »التمرد« الذي اضطر الرئيس الراحل حافظ الأسد إلى مواجهته بالنزول إلى الشارع والثكنات وقواعد الحزب، وبين »التسوية« التي قصد بها ومنها احتواء أو استيعاب »المضللين« أو »المنتفعين« من »التمرد«، تمّ تجميد الوضع على قمة السلطة (قيادة الحزب ومن ثم الحكومة) تحت عنوان وطني مقنع »حماية الجبهة الداخلية من التصدع بينما الوطن مهدد بالعدوان الإسرائيلي والجرح اللبناني والتآمر الخارجي، ناهيك بمناخ الاستسلام السائد عربياً.
على هذا يمكن القول إن المؤتمر الحزبي الجديد محكوم بأن يكون أشبه بالمؤتمر التأسيسي، صراحة في المواجهة وجذرية في طرح المسائل الفكرية والسياسية وجدية في مواجهة المهمات الفعلية المطروحة على الحزب، لتتمكن هذه المؤسسة العريقة من استعادة دورها القيادي، وإلا بقي المؤتمر شكلاً وبقي الحزب جسداً بلا روح!
إن حزب البعث العربي الاشتراكي يواجه اليوم امتحانا قاسيا للذات وللقدرة على التجدد واستعادة الشرعية المنسية بحقه في موقع »الحزب الحاكم«.
فهذا الحزب تخلخل بنيانه وشحب دوره القومي وتضاءلت قدراته ومشروعيته، وعاش سلسلة من الأزمات الفكرية والسياسية والتنظيمية مزّقت تنظيمه الأصلي وهدّت بنيانه العقائدي (الأولي) وجعلته تيارات مصطرعة، وأخذته لعبة السلطة الى القوات المسلحة فغدت البنادق أهم من المبادئ، وأخرجت منه مجموعات هائلة من مناضليه المميزين وكادراته الفاعلة، وشردت العديد من قياداته، حتى غدا أقرب ما يكون إلى جسد ممزق بالجراح وفاقد للقدرة على الإنجاز.
ولولا الشخصية القيادية الفذة لحافظ الأسد، وإيمانه بدور الحزب، وحرصه على إبقائه مصدرا للشرعية ومنارة هادية للحكم في سعيه إلى تحقيق مطامح الفقراء من الفلاحين والعمال وصغار الكسبة، لذوى دور الحزب تماما وصار شيئا من الماضي.
بهذا المعنى فإن مؤتمر الحزب الذي يبدأ أعماله اليوم في جو من الحداد على رئيسه القائد ستكون أمامه مهمة بعث حزب البعث من رقاده الطويل، واستعادة الوعي بدوره التاريخي، والعودة إلى الحياة والى خدمة أهداف جماهيره، خصوصا وان أكثر من مليون سوري ينضوون في صفوفه (بين حزبي عامل ونصير)،
لقد انطفأ حافظ الأسد الذي كان يحاول، وحتى اللحظة الأخيرة، أن ينجز »اتفاق تسوية« مقبولاً، يمكّن البلاد من أن تنصرف إلى إعادة البناء، ومن اللحاق بالعصر واستدراك ما فاتها من وجوه التقدم لا سيما في نطاق ثورة المواصلات والاتصالات وإسقاط الحدود وفرض شروط قاسية للمنافسة، على مستوى العالم كله، تعطي المتقدمين (صناعيا وعلميا) فرصة السبق الساحق،
وهو كان قد بدأ يمهّد، قبل رحيله، بالتحريض المباشر كما بالتوجيه الهادئ إضافة إلى المثل الصالح، لتحوّلات جدية مفترضا أن الحزب مؤهل لقيادتها والاندفاع بها إلى الأهداف المرجوة،
ولا شك في أن »المناخ الجديد« الذي أطلقه دخول الدكتور بشار الأسد حلبة العمل الحزبي، على المستويين السياسي والعسكري، كان يعكس توجهات »الأب القائد« بقدر ما كان يعكس الرغبة العارمة عند القائد الشاب في استعادة زمام الوقت والتحرك بسرعة منعا لخسارة تراكمية قد تلغي احتمالات النجاح.
ها هي اللحظة قد حانت:
فالحزب قد جدّد »شبابه« عبر الانتخابات التي عصفت بالكثير من القيادات التي كانت ترى نفسها »تاريخية« وغير قابلة للعزل أو للسقوط، كما عصفت بالكثير من المنافقين الذين حاولوا أن يتلطوا خلف صورة بشار الأسد وكأنهم أهل التجديد والتغيير.
ثم ان قيادة الحزب واجهت الزلزال الذي أحدثه غياب الرئيس القائد حافظ الأسد بقرارات سريعة ثبّتت قواعد الشرعية، في انتظار المؤتمر الذي سيعيد صياغة القيادة والبرنامج والمهمات، ومن ثم الحكومة، بعد استكمال الخطوات الدستورية لتنصيب الرئيس الجديد مكمّل مهمات حافظ الأسد من موقع الأمين العام للحزب الحاكم.
إن التقارير المقدمة إلى المؤتمر ليست أكثر من عناوين، أو توجهات عامة،
ولا شك في أن القيادة الجديدة ستكون مطالبة بأن تقدم خطة عمل عصرية لاستكمال بناء سوريا الحديثة، وإعادة صياغة نظامها (حزبيا وسياسيا واقتصاديا) بما يعجل في انتقالها إلى القرن الحادي والعشرين.
إنها فرصة جديدة، وهي لا تتاح كثيرا، للحزب كي يثبت أهليته وجدارته وصدق تعبيره عن جماهيره وعن شوقها إلى الإصلاح بالتغيير وبالانفتاح على العصر، وبالديموقراطية الشعبية وبمحاورة الأفكار الجديدة وتوسيع نطاق المشاركة الشعبية في القرار.
ونفترض أن الدكتور بشار الأسد بحاجة ملحة إلى مثل هذا الحزب وشرعيته.
إنه بحاجة إلى الحزب القائد، الحزب الحاكم، وليس بحاجة إلى حزب القائد أو حزب الحاكم… فمثل هذا الحزب لا أمان له، لأنه ينحاز، في اللحظات الحرجة إلى الأقوى وليس إلى الأكفأ والأحق والأجدر، كما انه لا يكون حزبا بل هو تجمّع للانتهازيين وقناصي الفرص والمنافقين.
إنه عهد جديد، برغم أنه يكمل الناموس ولا ينقضه.
فهل ينجح حزب البعث في التحدي المفروض عليه لبعث نفسه من جديد؟
إن أول من يحتاج مثل هذا النجاح هو الدكتور بشار الأسد، الذي سيكون المؤتمر إذا ما أنجز مثل هذه المهمة إنجازه الأول وعلى نمطه تجيء سائر الإنجازات.

Exit mobile version