طلال سلمان

بعد زهو وقبل ندم

أما وقد سكتت »المدافع« إيذاناً بتوقف »حرب« الانتخابات، وأخذ الناس في لبنان عامة، وفي بيروت خاصة، يستعيدون روعهم ووعيهم بما حدث، فقد باتت المراجعة لحصر الأرباح والخسائر ممكنة، وعاد ممكناً اللجوء إلى العقل بعدما عطّله لفترة احتدام العواطف وهياج العصبيات.
وعلى قاعدة »ليس كل ما يبرق ذهباً«، فليست كل هزيمة للخصم انتصاراً مطلقاً، وليس عدد المقاعد النيابية هو المعيار الوحيد أو الأساسي في تشكيل الأكثرية، ثم أن الأكثرية العددية ليست لوحدها وبالضرورة تجسيداً للإرادة الشعبية… وما أكثر الحالات التي كانت فيها الأكثرية العددية سنداً لخطأ جسيم (اتفاق 17 أيار، مثلاً، انتخاب بشير ثم أمين الجميل، مثلاً، بغير أن ننسى التمديد)..
إن الفورات العاطفية، لا سيما تلك التي قاعدتها طائفية أو مذهبية، إنما تعبّر عن »تعصب« أكثر مما تعبّر عن »إرادة«. والتعصب يستند إلى الغريزة أو إلى العاطفة، بينما الإرادة فعل العقل.
بعد الفورة العاطفية غالباً ما يستفيق العقل وينتبه الضمير إلى ما صدر من سلوك في غيابه أو بينما كان مخدراً، فيتقدم الندم ليحتل المسرح، وتسود لغة الاعتذار أو الأسف: لعلنا قد تسرّعنا! لعلنا تصرفنا في لحظة انفعال! لعلنا قد ظلمنا الآخرين وظلمنا بالنتيجة أنفسنا! لعلنا نتحمّل المسؤولية عما سيكون ممّا لم نقصده أو لا نريده بالصورة التي أظهره عليها الانفعال!
بعد السكر بالزهو يجيء الندم،
في بعض مناطق لبنان لا مجال أمام الناخب للندم لأنه لم تكن أمامه فرصة للخيار، إذ ان حصار الظروف (بالتحالفات الاضطرارية واللوائح المعلبة والدوائر المفبركة صناعياً على المقاس) لم يكن يسمح بأي تعديل أو اختراق، فكيف بالتبديل!
في مناطق أخرى كانت المفاضلة صعبة والتمييز مستحيلاً بين متشابهين، لذلك كانت تعتمد معايير مضحكة بينها الوسامة، »الطلة«، اللسان الحلو، »الملقى اللطيف«، »القريب من القلب« الخ.
أما ثالثة الأثافي فكانت حيث استحال الخيار الممكن، لأسباب خارجة عن إرادة طرفي الخيار، فغابت أسماء لها مساهمتها في تاريخ لبنان الحديث، وغابت عن المجلس النيابي وجوه لرجال أضافوا إليه في العديد من الحالات المعنى، وهجرت خشبة المسرح السياسي شخصيات كانت تضفي عليه قدراً من الحيوية المطلوبة، لا سيما حين كانت تلعب دور المعارضة المسؤولة فترفع مستوى الحكم.
إذن فنحن الآن في حالة بين بين: الزهو يشحب تدريجياً لأنه يفتقد السند الموضوعي، والندم يحتل مزيداً من المساحة، خصوصاً متى تركز التفكير على الغد ووقائعه المحتملة المثيرة، وحيث لن يكون للأكثرية العددية دوراً لا في حل المعضلات التي تواجه البلاد، وأخطرها الوضع الاقتصادي المأزوم، ولا في اجتراح حلول عجائبية لمأزق الديموقراطية والحصار الطائفي والمذهبي يشتد من حولها حتى ليكاد يخنقها أو يزوّر صورتها الطبيعية.
فالأكثرية العددية لم تلدها البرامج السياسية، ولا هي مجموعات حزبية ملتزمة ببرامجها.
والآن لنستخلص، من خارج الزهو، وقبل الغرق في بحيرة الندم بعض الدروس والعبر:
أولاً واهمٌ مَن يفترض أن النتائج التي أفضت إليها الانتخابات هي حقائق نهائية، لا تفعل غير تجسيد الإرادة الشعبية.
إن بعضها، وربما معظمها، يندرج في خانة رد الفعل تجاه »الآخر« أكثر مما يعبّر عن تأييد مفتوح لمن نال الأصوات.
من الشمال إلى الجبل فإلى بيروت اختلطت عقوبة المقصّر بالرغبة في تنبيه مَن أخذته الغفلة بعيداً عن ناسه، بضرورة هز العصا لمن نسي مسؤوليات موقعه أو قصّر في ممارستها فسمح للآخرين »باختلاسها«، ومن ثم باستخدامها في غير وجهتها الأصلية.
.. ولقد وقعت العصا فشجت الرأس وكسرت جرة السمن!
ثانياً ليس الاقتراع تفويضاً مطلقاً، لا بل هو دائماً مشروط.. وليس ثمة مبايعة مفتوحة، لأي كان من »الزعماء«، سواء أكانوا تاريخيين ودائمين أو مستجدين.
كل تأييد جاء مشروطاً، وشروطه معلنة، وبعض الشروط تكتسي طابعاً »استفزازياً«، إذ ان المعنى المضمر هي الرغبة في تأديب »الآخر«.
ثالثاً يتصل بذلك أن أي حديث عن المبايعة أو التفويض المطلق فيه إهانة معلنة للناخب وللعملية الانتخابية بما هي وسيلة للتعبير عن الرأي ولتأكيد الانضواء تحت لواء الديموقراطية.
بل ان في مثل هذا الحديث ما هو أدهى من النفاق، بكل مقاتله، إذ قد يصوِّر لمن توهم أنه حصل على »البيعة« أنه قد يغني عن الجميع، وأنه »الأوحد«، وأن لا مثيل له ولا شبيه ولا بديل منه… إلى آخر هذه الصفات التي من شأنها أن تقوده إلى الانتحار.
إن الاقتراع بذاته تفويض مشروط، محدود الإطار ومحدَّد المدة.
والتصويت لفلان نكاية بعلان ليس اعترافاً بأهلية الثاني بقدر ما هو تعبير عن خيبة أمل بالأول، وهو هرب من خيار ثبت فشله مع أنه كان واعداً بالنجاح إلى خيار »قد« ينجح… والامتحان مفتوح،
الزهو يذهب سريعاً… أما الندم فيبقى، إلى أن يظهر ما يلغيه، إذا ما ظهر، وهو منهك لأنها محاسبة لا تنتهي للذات على ارتكابين كلاهما خطير: أنها عاقبت بدل أن تحاسب، وأنها تساهلت مع البديل فأعطته ما لم تعطه لمن سبقه، وأنها بذلك فرّطت بحقوقها بدل أن تتشدد في حمايتها!
حمانا الله من شر الأمرين: الزهو ثم الندم المر!

Exit mobile version