يستعد اللبنانيون للاحتفال بإنجاز تاريخي جديد (بعد صحن الحمص الأسطوري) ألا وهو النجاح غير المسبوق في تشكيل «حكومة العالم»، بأممه غير المتحدة، والتي تقدّر المراصد الدولية المشهود لها بالنزاهة والدقة أن ترى النور خلال يومين، على أبعد تقدير.
ليس إلا لبنان وحده يستطيع أن يحشد في حكومة واحدة «دول القرار» ذات حق الفيتو في مجلس الأمن، والدول التي لها جنود في اليونيفيل (36 دولة) مع الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية الأغنى فالأقرب، إضافة إلى دول «الجوار العربي»، وبالتحديد إيران وتركيا، مع موقع استثنائي لسوريا بحكم الجغرافيا ومعها المصالح المشتركة، وموقع رمزي لفلسطين، بمعزل عن الخلافات بين «سلطتيها» ومعارضاتهما التي لا سلطة لأي منهما.
إنها حكومة فريدة في بابها: مقاعدها بعدد دول التأثير في قراراتها، سواء أكانت أمنية أم اقتصادية، اجتماعية أم تربوية إلخ..
÷ فأما الخارجية فيمكن التساهل في «هوية» من يشغلها لأن مسؤولياتها يتوزعها الرؤساء الثلاثة بالتعارض أو بالتوافق مع الوزير المختص.
ولقد دلت التجربة أن رئيس الحكومة يشكل مركز ثقل في السياسة الخارجية، وقد زاد ثقل هذا الموقع بعد الرئيس الشهيد رفيق الحريري بعلاقاته الواسعة دولياً وبتأثيره الشخصي الذي طالما أزعج الوزراء في قصر بسترس..
÷ أما الداخلية فإن شاغلها، وكائناً من كان، سيظل ضيف شرف عليها، لأن جهازها ينتمي إلى عهود غابرة وما زال يأتمر بتعليمات من زرعه فيها… وتجربة زياد بارود فيها «مرّة» كما العلقم.
÷ فأما المالية فلسوف تكون غرفة خلفية لرئاسة الحكومة كما كانت على امتداد خمس عشرة سنة أو يزيد، القرار فيها لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وباريس 1ـ2ـ3 والرابعة في الطريق.. إن شاء الله.
÷ وزارة الدفاع لبرنامج المساعدات العسكرية الأميركية والوزير مجرد «ناظر» ومنسق لحركة وصول سيارات الجيب، بعدما تعذر وصول طائرات الميغ 29 التي بشّرنا بها بعد زيارته الميمونة لموسكو والتي تبيّن أن كلفة صيانتها تزيد على كلفة المهمات التي ستكلف بها!
÷ وأما وزارة العدل فلسوف يسجل للنظام الفريد أنه قد عهد بها، وللمرة الثانية على التوالي، إلى من يتباهى بأنه يمثل تنظيماً ميليشياوياً، بغض النظر عن الأحكام الصادرة بحق «قائده» في جرائم اغتيالات مشهودة طاولت واحداً من أهم رؤساء الحكومات والعديد من القيادات السياسية والحزبية فضلاً عن شبهة التعامل لسنوات مع العدو الإسرائيلي خلال اجتياحه لبنان 1982..
ومن حق الوزير القائم بالأمر أن يعلن انتصاره باستمراره في هذه الوزارة التي تشهد على طبيعة النظام وحكوماته المحققة للعدالة، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
÷ نصل إلى وزارة الشؤون الاجتماعية حيث تقسيم العمل قائم ومرعي الإجراء منذ حوالى العقدين: ميزانيتها لجمعيات الرئيسات الأولى والثانية والثالثة، السابقات منهن والآتيات، وما تبقى جوائز ترضية لبعض المؤسسات شبه الدينية ولبعض أصحاب القوة على الأرض.
÷ فأما التربية فأمرها شورى بين أهل الدين وأهل الدنيا والسفارات ذات التأثير، عربياً ودولياً، وربما لهذا يتعذر أن يدرس طلابنا تاريخنا في كتاب موحَّد وضمن مفاهيم توحيدية، فتكون النتيجة أن ينشأوا بهويات شتى، بعدد المدارس والجامعات التي تتوالد كالفطر، بغير منهج وطني ومعايير دولية محترمة تحدد الفروق بين الجامعة والمعهد ودكاكين التعليم السريع… مع خدمة إلى المنازل!
÷ وأما وزارة العمل فقد فقدت وظيفتها مع اندثار الطبقة العاملة، نقابات متمايزة في توجهاتها السياسية لكنها تشكل إطاراً جامعاً لمن كانوا عمالاً فتقاعدوا أو غابوا عن دنيانا بينما اندفع أبناؤهم إلى أربع رياح الأرض يبحثون عن فرص عمل بغير التدقيق في هوية أرباب العمل وبغير تشدد في المطالبة بضمانات لحقوقهم التي يكفلها «الكفيل».
على هذا المنوال قس: موقع الوزارة يحكم الوزير، والمدير العام يحكم القرار، حتى لو كان بالوكالة التي صيّر توالي الأيام شاغلها أهم من الوزير الأصيل، والإدارات بحسب ولاءات من يتولاها سواء باسم حزبه أو تنظيمه أو جماعته أو صاحب الفضل بتوزيره.
ليس صحن الحمص اللبناني وحده بأرقام قياسية: إن حكومة العالم اللبنانية هي الأخرى بعدد قياسي من الوزراء، ليس لبعضهم من وظيفة ولكن له شرف اللقب والمرتب والمخصصات التي تمتد، بعد الراتب، إلى الخدم والحشم والسيارات والسائقين والمرافقين والسكرتيرات والمعاونين… بحيث أن الوزير اللبناني يكلف «أخاه» المكلف اللبناني أضعاف أضعاف مخصصات وزير الخزانة في الولايات المتحدة الأميركية، مثلاً.
[ [ [
يبقى أن نستذكر معاً أهم ما شهده العالم من أحداث كادت تغيّر صورته في فترة ترقب الشعب اللبناني العظيم ولادة حكومته الجديدة، والتي استطالت بين أوائل حزيران الماضي وأواسط تشرين الثاني الحالي:
÷ خاض الرئيس الأميركي أوباما معارك سياسية مع اللوبي الإسرائيلي في بلاده انتهت بهزيمة دفع ثمنها شعب فلسطين و«السلطة» التي لا سلطة لها، والتي كانت محاصرة فأضحت سجينة، وكانت مقدمة لإعلان «الدولة» فانتهت إلى نعي ذاتها فضلاً عن تشييع حلم الدولة إلى مثواه الأخير بينما يلتهم الاحتلال الإسرائيلي آخر ما تبقى من القدس العربية، وبالتحديد حرم المسجد الأقصى الذي باركنا حوله..
÷ ارتجّت إيران الثورة الإسلامية بأصوات اعتراض جدية لم تؤثر على دورها في المنطقة وفي العالم ولكنها فرضت أو ستفرض بعض التعديلات على نظامها الفريد في بابه والذي تبيّن أنه شاخ قليلاً ولا بد من تجديده.
÷ ظهرت مقدمات لقيام محور سياسي جديد في منطقتنا يضم سوريا وتركيا وإيران موفراً للقيادة السورية أن تلعب دوراً محورياً، في حين ذوت أدوار دول كبرى كان لها دورها الوازن تاريخياً، مشرقاً ومغرباً.
÷ تفككت دول كانت كبرى في المنطقة، أو هي في طور التفكك بينها اليمن والسودان، في حين يجهد الاحتلال الأميركي لتفكيك العراق «سلمياً» بالاتكاء على «استنهاض» الأديان والطوائف والمذاهب والأعراق والعناصر، بما سيكون له تأثيراته المدمرة على المنطقة جميعاً، ولبنان منها في الطليعة.
لقد تغيّرت صورة العالم أو كادت خلال انهماك الطبقة السياسية في لعبة الكراسي الموسيقية التي اسمها «حكومة العالم»، والتي ستنشب «حروب» كبرى داخلها، بعد ولادتها القيصرية ليتأكد موقع لبنان الدولي وفرادته في الكون، ثم أنها ستفرض على اللبنانيين أن يتجرعوا كل يوم غصات التواؤم والائتلاف والتوافق على حكومة الوحدة الوطنية التي اجتمع فيها وعليها العالم كله.
عشتم وعاش لبنان!