خلال ستة شهور فقط دخل لبنان بهمومه الثقيلة البيت الابيض مرتين:
المرة الأولى في 24 نيسان، غداة الاجتياح الاسرائيلي الذي بلغ ذروته بمجزرة قانا الجنوب، حين »اقتحم« الرئيس الياس الهراوي جدول مواعيد الرئيس الأميركي بيل كلينتون، لكي يُسمعه مباشرة شكواه التي كان أطلقها قبل ساعات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.
والمرة الثانية، أمس، في 18 تشرين الثاني، حين استطاع رئيس الحكومة رفيق الحريري ان يقتطع من وقت الرئيس المرشح بيل كلينتون ما يكفي لسماعه وهو يتحدث عما يتخطى الشكوى والمطالبة بالتعويض عن الأضرار متصلاً بدور لبنان وموقعه على خريطة الاهتمامات الأميركية في المنطقة انطلاقاً من »العملية السلمية« التي ترعاها واشنطن حتى في تعثرها الراهن.
وإذا كان الرئيس الهراوي قد رفض قبل ستة شهور المساعدة الانسانية (مليون دولار) التي عرضها البيت الأبيض، مقدماً الموقف السياسي على كل ما عداه، فإن الرئيس الحريري قد اكتفى »بحجز موعد« للحديث الاقتصادي (اللجنة الاستشارية) حول لبنان بعد ان يفرغ كلينتون من انتخاباته ويصبح قادراً على تحويل التمنيات والعواطف الاميركية »الحارة« الى قرارات يتحمل اعباءها الآخرون!
ولا شك في ان شهادة التقدير التي استُقبل بها الرئيس الحريري مهمة جداً، معنوياً، ولها دلالاتها السياسية الواضحة، ولكنها تظل قاصرة عن ان تنفع لبنان في معالجة همومه الضاغطة على مجتمعه وعلى أوضاعه الاقتصادية بالذات، خصوصاً اذا هي لم تترجم في مساعدته عملياً على مواجهة المصدر الأساسي للمخاطر جميعاً: الاحتلال الاسرائيلي والتصدع الخطير الذي يتهدد العملية السلمية بالسقوط، ويكاد يشل الحياة في المنطقة كلها بعد التطور الدراماتيكي المتمثل باستيلاء أقصى التطرف الاسرائيلي على الحكم في تل أبيب.
في هذا المجال لا يملك بيل كلينتون ما يقدمه، الآن على الأقل،
وإذا كان قد فشل في »انتزاع« أي »تنازل« من نتنياهو قبل أيام قليلة، وعبر »قمة النفق«، برغم طوفان الدم الفلسطيني في الأرض المحتلة، فمن باب أولى ألا يستطيع أن يقدم شيئاً للبنانيين المخدرين الآن »بتفاهم نيسان«، في انتظار انبعاث العملية السلمية، إن هي كانت ما تزال قابلة للحياة.
في أي حال تبقى »الحركة بركة«، ويبقى لقاء كلينتون ولو في الظرف الانتخابي تطوراً نوعياً في العلاقات اللبنانية الأميركية، حتى لو اقتصر على تجديد الموقف المبدئي الذي لا يتعب من ترداده كبار المسؤولين في واشنطن عن حرصهم على سيادة لبنان واستقلاله وإعماره وإنمائه وتطوره الديموقراطي وتمنيهم »خروج جميع القوات الأجنبية منه«.
ونفترض أن الرئيس الحريري كان يفضل لو تمت الزيارة بعد الانتخابات لا قبلها، فكلينتون الثاني سيكون وفق الشائع عربياً عن الرؤساء الأميركيين أقل ارتهاناً للصوت اليهودي، وبالتالي للأطماع وخطط التوسع الإسرائيلية.
.. ويمكن أن يضاف الآن، وفي ظل بنيامين نتنياهو: وأكثر قدرة على مواجهة التطرف الإسرائيلي الذي يتصرف مع كلينتون وكأنه قد انتصر عليه شخصياً، من خلال إلحاقه الهزيمة بمرشحه الأثير شيمون بيريز.
على أن المديح الذي كالته واشنطن للرئيس الحريري وقدراته وشجاعته وكفاءته، يطرح على الفور سؤالاً له مغزاه: فإذا كان الحريري قد أنجز ما تمتدحه عليه واشنطن من دون مساعدتها، فكيف لو أنها قد ساعدته (ولبنان) فعلاً بأكثر من الكلام؟!
ثم إن سؤالاً آخر يفرض نفسه: كم من هذا المديح موجّه بقصد اجتذاب الحريري، ولبنان، بعيداً عن »الصديق الأوروبي« الذي يحاول الإفادة من القصور الأميركي، أو تماهي الموقف الأميركي مع السياسة الإسرائيلية، لكي يجد لنفسه منفذاً للعودة إلى المنطقة التي كانت واشنطن قد نجحت، تقريباً، في اجتذابها الى فلكها، واحتكار النفوذ والمصالح فيها؟!
ان توقيت موعد اللقاء مع كلينتون لافت: فهو يجيء عشية وصول جاك شيراك الى المنطقة، في جولته الثانية والموسعة الآن فيها، والتي ستكون دمشق و»السلطة الفلسطينية« في الأرض المحتلة ابرز محطاتها السياسية، وأدق خطوط التماس المباشر مع نتنياهو وسياسة التمييز العنصري التي بلغ بها ذروة تطرفها.
هذه المرة يستقبل الحريري صديقه الرئيس الفرنسي وهو قادم مباشرة من لقائه »السيد الاميركي« الذي سعى بكل جهده الى إبعاد فرنسا ومعها اوروبا كلها عن »تفاهم نيسان«، وحين اضطر الى التسليم بدور فرنسا كمراقب عسكري، فإنه حاول استخدامها، ومعها اوروبا، كمعتمد دفع، فقط، في اللجنة الاستشارية المولجة بالمساعدات الاقتصادية.
لقد استكمل الرئيس الحريري بلقاء كلينتون مجموعته الممتازة، ولسوف تحتل صورته في البيت الأبيض مكانها في صالونه، تتويجاً لحركته الدبلوماسية النشطة القابلة للتثمير اقتصادياً كورقة لا تقبل الخسارة.
وكما ان الرئيس الحريري لم يقصد أي عاصمة، وبالذات واشنطن، إلا عن طريق دمشق، فإن الرئيس الفرنسي يجيء مرة اخرى، ورسمياً الآن، عبر الدور الفرنسي المتنامي في المنطقة، الذي كانت دمشق محوره، بالاتكاء على رفيق الحريري »الذي شرفني بصداقته«، كما قال جاك شيراك في بيروت، وفي دارة الحريري بالذات، قبل شهور قليلة وهو يمنحه الوسام الفرنسي الاغلى بالتأكيد من الوسام الذي طوّق به عنقه الرئيس الهراوي، قبل أيام، وهو يودعه ليتلقاه مجدداً وحتى اليوم الأخير من هذا الحكم المتعدد الرؤوس.
لكن السؤال يبقى: الى أي حد يفيد هذا كله في ردع نتنياهو؟!
هذا قبل السؤال عن المردود المباشر لهذا كله على الوضع الداخلي المأزوم؟!