اشتاقت القاعة الفخمة التي يسكنها الصمت منذ دهر الى الخطابات والمشاحنات والعركات الودية التي تبدأ بالصراخ وتنتهي بقبلات المختلفين وقد تحولوا الى عشاق.
طالت قائمة طالبي الكلام من نواب الصمت، وتسامح دولة الرئيس متفهماً حاجة أقرانه الى تبرير وجودهم كممثلي الشعب والمعبرين عن حاجاته، حماة مصالحه والناطقين باسمه بعد دهر من الغياب عنه وعن مجلس الخطابة.
قدم النواب امتحانهم الأول، بعد عطلة إجبارية قاربت السنة وحرمتهم ـ منذ أن صاروا نواباً ـ من اعتلاء منبر الفصاحة.. جاء الوقت إذن فلنخطف مكبر الصوت ونكرر فعل إيماننا بالديمقراطية وحقوق الشعب.
طالت قائمة طالبي الكلام، وابتلع “الرئيس” حبة مانعة لوصول الصوت الى الرأس، في حين انشغل دولة الرئيس الثالث بالتعرف الى وزرائه ممن لم يكن يعرف حتى صورهم، في حين انهمك الوزراء الجدد بتبادل بطاقاتهم الشخصية حتى لا يخطئ محدثهم فيهم.
دق الجرس، فانطلق المتبارون في تلاوة فروضهم المدرسية التي طال انتظارهم الفرصة لإطلاقها رنانة بأمل أن تغير مسار التاريخ.
فجأة شجر الخلاف غير المتوقع، إذا استذكر نجل الراحل بشير الجميل، الذي انتخب رئيساً للجمهورية قهراً، في ظل الاحتلال الإسرائيلي الذي طاول العاصمة بيروت، وضواحيها بكل المواقع الممتازة للسلطة: القصر الجمهوري في بعبدا، ومجلس النواب والسراي الحكومية في قلب العاصمة مما دفع سلطات الإحتلال الى اختيار ثكنة الفياضية كمجلس نيابي مؤقت لانتخاب فخامة رئيس الدولة تحت الإحتلال.
وهب بعض من لم يفقدوا ذاكرتهم من النواب يلعنون ذكر هذا “الخائن” الذي زار “العدو الإسرائيلي” في أرض احتلاله فلسطين، ونجح في امتحان الولاء فتقرر دعمه كمرشح للرئاسة، وتأمين الظروف المناسبة الملائمة “لتعيينه”.
كان من الطبيعي أن يحاول الإبن الدفاع عن أبيه.. ولما لم تسعفه القاعة الفخمة بحشد نوابها، ذهب الى مركز الزعامة في ساحة الأشرفية، حيث ارتجل مهرجاناً هدفه إعادة الإعتبار ـ طائفياً ـ الى الوالد “الرئيس” الذي غاب قبل أن يرى وريثه.
في أي حال فلسوف يكمل النواب خطبهم التي أعدوها، أو أعدها لهم المحترفون من كتّاب الخطابات للغير، اليوم الجمعة، وغداً السبت.. وربما بعد غد الأحد. فمن الحرام أن تضيع عليهم فرصة النقل المباشر لدرر كلام..
يعرف النواب أن الفرصة قد لا تتاح لهم في القريب العاجل، بل هي قد لا تتاح قبل نهاية عمر مجلسهم.. فليتمثلوا بالقول الدارج: اذا هبت رياحك فاغتنمها..
ويعرفون أيضاً أن الكلام قد يكون مِعبراً الى “صاحب المعالي”..
في أي حال، فالكلام جميل.. أما التنفيذ فلسوف يتأخر حتى ننسى ما أثير من فضائح.. ولطالما كانت “اللجان” مقبرة المقررات، ولطالما كانت الجلسات النيابية مهرجانات خطابية، فكيف والنواب قد حُرموا من الكلام المباح منذ انتخابهم وحتى اليوم..
ولعله لن تتاح لهم فرصة أخرى قبل انتهاء عمر نيابتهم..
وقديماً قيل: اذا هبت رياحك فاغتنمها..