ضاع الصوت في الهواء، بينما ظل الصوت الآخر مكتوماً في القاعة المغلقة لمجلس الوزراء: لا هؤلاء سمعوا، ولا أولئك انتفعوا،
فرغ الشارع إلا من المشكلة التي فرضت التظاهر، وفرغت القاعة إلا من العجز عن حل المشكلة الأكبر من الحكومة والمتظاهرين معاً.
لا الهتافات تفتح باب الحل، ولا الصمت يقرب موعده.
ثم ان المشتركين في الهتاف أشتات، لا يجمعهم تصور واحد، وهم لم يتفقوا قبل التظاهرة إلا على التظاهرة، ولن يتفقوا بعدها على برنامج لمعالجة الأسباب أو للتخفيف من حدة المشكلة التي تتفاقم مخاطرها يوماً بعد يوم بحيث تقترب من أن تكون مأزقاً للوطن ودولته وليس لفئة معينة أو فئات من مواطنيه.
على أنه موسم انتخابي، والتظاهرة تخدم حتى لو لم تقدم موعد الحلول، ولم تساعد على فتح النقاش الجدي والمسؤول بين الفرقاء المختلفين حول التشخيص والأسباب والحلول، وإن تساووا بأنهم متضررون جميعاً من وصولها إلى الشارع بعد ارتطامها بالباب الموصد لمجلس الوزراء.
المشكلة جدية في مخاطرها الداهمة، وهي أعقد بكثير من أن تحلها تظاهرة يشارك فيها كل طرف بعدد معلوم من الأنصار، وعدد أكبر من الأعلام، خصوصا ان بين الأطراف مَن هو مشارك في السلطة بما يحمّله نسبة معينة من المسؤولية عن الأزمة، وبينهم من يحمل اعتراضه شبهة انتهاز الفرصة أكثر من السعي إلى حل حقيقي لمشكلة حقيقية، وهكذا فإنه يمشي (ويتصور) في التظاهرة ثم يذهب بعد ذلك مباشرة فيستحم من وعثاء السير في قلب ضباب الحر والرطوبة والمازوت مفترضاً أنه أدى قسطه للعلى… فينام مرتاح الضمير!
أما الحكومة فحكومات… بعض الوزراء يقولون في الجلسات المغلقة كلاماً أخطر مما أطلق كهتافات في تظاهرات المهددين بالفقر، ويسردون أرقاماً يصححون بها أرقاماً مغلوطة صادر عن جهات رسمية تكشف أن الوضع أصعب مما يراه المتظاهرون ويحتجون عليه.
الأزمة حقيقية، والشعارات كذلك، من حيث المبدأ،
لكن الحوار مقطوع، ومعطل، في الشارع كما في المؤسسات السياسية عموماً، انتهاء بالحكومة.
الكل يتحدث خارج دائرة الحل الذي يبدو أنه متعذر اليوم ومتعذر غداً ويحتاج إلى سلسلة من الخوارق والمعجزات التي ستقصر هذه الانتخابات المعلنة النتائج سلفاً عن اجتراحها.
قد يكفي المتظاهرون، أو بعضهم، لا سيما »السياسيون« أو »أصحاب الغرض السياسي«، أنهم قد سجلوا نقطة إضافية على القصور الحكومي،
وقد يكفي الحكومة أنها ظلت في حصنها سليمة، تحميها شبكة الأمان المر التي قطعت الطريق على المتظاهرين دونها، فأكملت جلستها المقررة من دون أن ينجح المتظاهرون في تخريبها!
لكن الأزمة بقيت في الشارع كما في المقر الخاص بمجلس الوزراء تنتظر علاجاً غير متوفر في »الصيدليات« أو في الوصفات الحكومية.
الموجع أن هذه الأزمة، برغم خطورتها، لن تلقي بظلها على الانتخابات المعقمة والمحصنة ضد أي تأثير لمشكلات البلاد المعقدة عليها.
لن ينجح مرشح لأنه يملك حلاً،
ولن يسقط مرشح لأنه متسبب في الأزمة،
وقد يفوز بالتزكية أو بأكثرية الأصوات مَن هو مسؤول عن ولادة الأزمة أو عن تفاقمها.
ماذا بعد؟!
الانهماك في الزيارات الانتخابية، حيث يسهل الحديث عن الأزمة ومسبباتها ومسببيها، كما يسهل اجتراح الحلول اللفظية لها،
ثم… تكبير الصور لعلها تغطي المسؤولية وتسد الشارع على المهددين بالبطالة أو بالإفلاس أو بالعَوَز الحقيقي،
الفراغ في كل مكان،
والأزمة وحدها مرشحة لأن تملأ الفراغ.. فحذار!