يزداد الطلب على كل من النفط والطاقات المستدامة من الرياح والشمسية في نفس الوقت الذي بدأت فيه الخطوات الاولية للانتقال من عصر النفط الى البدائل الطاقوية. تتبين هذه الظاهرة في كل من الزيادة المستمرة على الطلب للنفط والطاقات المستدامة وكذلك الى الارتفاع في معدلات الاستثمار العالية الكلفة في كل من هذين القطاعين. ومن أجل تبيان وقائع هذه الظاهرة سنحاول ان نشير الى بعض الامثلة للتطورات في هذين المجالين والاسباب وراء هذه الظاهرة.
لماذا هذه الزيادة في الطلب العالمي على النفط بخاصة، والطاقة عموما؟ يكمن الجواب في سببين رئيسيين. الأول: الارتفاع المستمر في عدد سكان العالم، من حوالي 5.3 مليار نسمة في عام 1990 الى نحو 7.3 مليار نسمة في عام 2015 والتوقعات باستمرار ازدياد السكان الى 8.5 مليار نسمة بحلول عام 2030 و9.7 مليار بحلول عام 2050 و11.2 مليار في عام 2100. الثاني: هو ارتفاع مستوى المعيشة للدول الناشئة والنامية ذات أعداد السكان العالية (الصين والهند والبرازيل وكوريا الجنوبية) ومن ثم ارتفاع الطلب على السلع الاستهلاكية المعتمدة على الطاقة.
فمن ناحية، هناك الازدياد المطلق في عدد سكان العالم. ومن ناحية اخرى، هناك ارتفاع معدل عدد السكان في الدول الناشئة، التي تشهد نموا اقتصاديا واجتماعيا قياسيا في العديد منها. الأمر الذي يعني ازديادا مرتفعا في الاستهلاك السلعي والكهرباء. لقد عوض الازدياد الاستهلاكي في الدول الناشئة انخفاض الاستهلاك النفطي في الدول الغربية الصناعية خلال السنوات الاخيرة، لتخوف الاخيرة من انبعاثات ثاني اوكسيد الكربون للنفط. كما عوضت الدول الناشئة ايضا للنقص في استهلاك النفط بنموها الاقتصادي السريع وبروز طبقة متوسطى كبيرة لديها تستهلك الكثير من السلع الاستهلاكية المعتمدة على النفط.
تشير معلومات وكالة الطاقة العالمية لعام 2019 انه “نظرا للنمو الاقتصادي للدول الاسيوية وللنمو السريع مؤخرا للصناعة البتروكيماوية في الولايات المتحدة، سيزداد الطلب العالمي على النفط نحو 6.9 مليون برميل يوميا بحلول عام 2023 الى نحو 104.7 مليون برميل يوميا”. وتضيف وكالة الطاقة في توقعاتها هذه ان الصين ستستمر العامل الاهم في زيادة الطلب العالمي. وهناك تخوف في حال انخفاض معدل الاستثمار في اكتشاف وتطوير حقول جديدة، كما حصل عند انهيار اسعار النفط خلال العامين 2014 ـ 2016، سيحدث عندئذ عجز في الامدادات. وبحسب الوكالة، من المتوقع في نفس الوقت ان تؤدي السياسات المستقبلية الأكثر صرامة للحد من الانبعاثات الكربونية الى المساهمة في التعويض عن استنزاف الحقول. كما ان زيادة استعمال المركبات الكهربائية والشاحنات المزودة بالغاز الطبيعي سيؤدي الى الحد من استهلاك النفط. كما تضيف الوكالة، “انه من المتوقع ان يزداد عدد وانتاج المصانع البتروكيماوية نظرا الى توفر غاز الايثين القليل الكلفة، وتضيف القيود المتزايدة على السيارات لتقليص استهلاكها للوقود، هذا بالاضافة الى توقع ازدياد الطلب من الدول الاسيوية. فستؤدي مجمل هذه العوامل الى ان تستهلك المصانع البتروكيماوية، الجديدة منها والقديمة، الى ان يشكل طلب الصناعة البتروكيماوية نحو 25 بالمئة من زيادة الطلب العالمي على النفط بحلول عام 2023. وبالاضافة الى هذه العوامل، هناك القوانين العالمية الجديدة لوقود البواخر والناقلات ابتداء من اول شهر كانون الثاني (يناير) 2020 التي ستحتوي على كبريت أقل. وتستنتج الوكالة ان هذه العوامل المختلفة “ستساعد في الحفاظ على البيئة، وستغير الكثير من نمط الاستهلاك النفطي”.
من الواضح، ان تزايد العوامل المهمة العديدة التي تتداخل في صناعة وتجارة النفط في آن واحد، قد تؤدي الى الحذر والتباطؤ في قيمة الاستثمارات الواجب اقرارها لهذه الصناعة، بالذات على حساب المتطلبات الاستثمارية الاخرى الضرورية في الدول المنتجة نفسها.
لكن نجد انه بالنسبة للنفط، ورغم فوضى الاضطرابات السياسية في دول الشرق الاوسط مؤخرا والنقص الفاضح في خدمات اقتصادية واجتماعية اساسية، نجد ان عددا كبيرا من هذه الدول تزيد من نفقاتها الاستثمارية البالغة التكاليف لزيادة طاقتها الانتاجية المستقبلية (السعودية، العراق، الامارات، والكويت). كما نجد ان عدة دول نفطية اخرى غير الاعضاء في منظمة الاوبك، تزيد هي بدورها من طاقاتها الانتاجية. فهناك الولايات المتحدة التي تشهد بفضل اكتشاف النفط الصخري أعلى زيادة في الانتاج النفطي خارج الاقطار الاعضاء في منظمة الاوبك. وكذلك تزداد الطاقة الانتاجية من كل من البرازيل وكندا والنروج. وهذه الدول الثلاث، بالاضافة الى الولايات المتحدة هي اعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (مجموعة الدول الصناعية الغربية). من الملاحظ، ان زيادات الطاقة الانتاجية لا تعني بحد ذاتها ان هذه النفوط الجديدة ستلبي فقط زيادة الطلب على النفط، بل ستعوض هذه النفوط ما يتم استفاذه من نفوط وما يتوجب تعويضه من نقصان لاحتياط الحقول المنتجة. من ثم، فالاكتشافات الجديدة، رغم الكلف الباهظة الثمن لها والتي تقدر ببلايين الدولارات سنويا، تخدم هدفين اثنين: تلبية الطلب العالمي المتزايد للنفط والتعويض عن انخفاضات الاحتياطات النافذة.
وبما ان الانتقال من عصر الوقود الأحفوري الى عصر الطاقات المستدامة هو في بداياته الاولى، حيث انه لا يتم هذا الانتقال من مرحلة الى اخرى بين ليلة وضحاها. لكن رغم الخطوات الاولية التي قد تم اتخاذها حتى الان في تشييد الطاقات المستدامة، فرغم هذه البدايات الاولى، كما هي في العديد من الدول العربية، نجد ان الاستثمارات في ازدياد واضح.
لكن، وكما تدل التجارب التاريخية، فان صناعة الطاقة تختلف عادة ما بين دولة واخرى. ففي دولة صغيرة صغيرة، مثل الدانمارك، اتخذت الحكومة قرارا مبدئيا لتشييد جزيرة اصطناعية لتبني عليها صناعة منشات طاقة الرياح. سيتم استثمار 30 مليار دولار في هذا المشروع الضخم، حيث يتوقع ايضا انتاج طاقة انتاجية كهربائية بقدرة 10 غيغوات، بالاضافة الى انتاج الادوات والمكائن والمراوح اللازمة لطاقة الرياح. ورغم ان المشروع لا يزال في المرحلة المبدئية، الا انه يعكس اهتمام طموحات الدانمارك في التخصص بمجال طاقة الرياح. من الجدير بالذكر، تعتبر الدانمارك من اكثر دول العالم اهتماما بتشييد منشات طاقة الرياح. وتخطط الدانمارك لتقليص انبعاثات غازات التدفئة في اراضيها نحو 70 بالمئة بحلول عام 2030، مقارنة بعام 1990. يعني هذا التحول الى الاعتماد اكثر فاكثر على الطاقات المستدامة، وفي مقدمتها الرياح.
لقد حققت الدانمارك الكثير حتى الان في مجال بدائل الطاقة. فهذه الدولة الصغيرة هي الاولى عالميا في انتاج طاقة الرياح. اذ انها بدأت تنتج منذ عام 2018 نحو 41 بالمئة من الطلب على الكهرباء في البلاد من طاقة الرياح. وهذه اعلى نسبة في اوروبا لانتاج الكهرباء من بدائل الطاقة حاليا. تعتمد وزارة الطاقة في تنفيذ مشاريعها هذه على القطاع الخاص، في كل من التمويل والتشييد، ويشمل هذا بناء الجزيرة الاصطناعية.
تكمن اهمية الدانمارك في كونها واحدة من دول شمال اوروبا التي تولي اهتماما واسعا ببدائل الطاقة، وهذا يشمل الدول الاسكندنافية والمانيا. كما تكمن اهمية الداتمارك في اعتمادها على القطاع الخاص للتمويل والتشييد. واخيرا ـ ومن اجل الاستفادة القصوى من بدائل الطاقة، في تطوير تقنياتها تدريجيا، تعمل معاهد الابحاث في الدانمارك لاستعمال الرياح كطاقة خضراء في الصناعة والاساطيل البحرية والجوية. والغني عن القول، ان هذه الابحاث قد بدأ العمل بها في عديد من الدول الصناعية، وما الدانمارك الا مثالا عما يجري في هذا المجال.
كاتب عراقي متخصص في شؤون الطاقة
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق