مرة أخرى تجيء أوروبا إلى المنطقة في دور الوسيط والمسهِّل والمسوِّق والمروِّج من داخل تسليمها بأن »القرار« في الشؤون الدولية عمومù مركزه واشنطن، و»القرار« في شؤون المنطقة العربية، ولا سيما ما اتصل منها بالصراع العربي الإسرائيلي، مركزه تل أبيب.
كأنما أوروبا الموحدة أضعف من مجموع دولها، وأضعف خصوصù من بعض دولها الكبرى والتي كانت طرفù مؤثرù يملك حق النقض حتى بعدما فقدت موقعها الممتاز كمركز للقرار في الشؤون الدولية كافة، بما فيها ما يخص »الشرق الأوسط«.
الوفد يضم هذه المرة: فرنسا وألمانيا وإسبانيا، وهي دول لها وزنها، ولها تاريخها مع هذه المنطقة، ولها مصالح كبرى، ولها (أو كان لها) رأي وموقف من الصراع العربي الإسرائيلي ومشاريع التسوية التي طرحت لتجميده أو لنزع صواعق التفجير فيه.
وأغلب الظن أن الجولة الجديدة لوفد الترويكا الأوروبية ستحاول كالعادة تزيين »الحل الوسط« لحسم التعارض الجوهري في المواقف بين دمشق (ومعها لبنان) وبين إسرائيل حول الهدف من المفاوضات الثنائية، كأن تقترح مثلاً، التسليم بنصف احتلال أو بنصف انسحاب كمدخل إلى »سلام ما« لكي ترتاح الضمائر المتعبة، والسلام!!
أغلب الظن أيضù أن أعضاء الوفد الثلاثي سيحاولون إبلاغ دمشق، همسù وربما بالاشارة والايحاء خوفù من الشبح الإسرائيلي الذي يطاردهم دائمù، إنهم يتفهمّون موقفها تمامù ويتمنون لو تصمد فيه، وأنهم لو أنهم يقدرون لجهروا بهذا التأكيد ولشجبوا التعنت الإسرائيلي، ولكن العين بصيرة واليد قصيرة، ولا حول ولا قوة إلا با”…
ولقد يجتهد واحد من الوزراء، أو أكثر، في ابتداع أسلوب ما لابلاغ دمشق ضيق شعبه (والأوروبيين عمومù) بالغطرسة الإسرائيلية التي تجاوزت الحدود وباتت تتعمّد إذلال أوروبا وتقزيم دورها،
ومؤكد أن الأوروبيين لا يريدون ولأسباب تخصهم أن تصبح إسرائيل هي »السيد« المطلق في أمبراطورية »الشرق الأوسط الجديد«، وأن تذلّهم وتتحكّم بمصالحهم وتفرض عليهم أن يأخذوا »التأشيرة« منها كلما أرادوا القدوم إلى المنطقة أو التحرّك فيها على قاعدة المصالح المشتركة بين شعوبها وشعوبهم.
وصحيح أن الانهيارات العربية المتوالية تضعف من قدرة أوروبا على لعب دورها المساند المفترض، أو أقله غير المنحاز،
لكن الصحيح أيضù أن الموقف الأوروبي المتذبذب، والتراجعات المتعاقبة أمام الابتزاز الإسرائيلي، ثم الاستسلام »العلني« للقرار الأميركي، كان له تأثيره في تصديع الموقف العربي، ثم في تسريع وتيرة الانهيارات، وفي إيجاد ذرائع جديدة للراغبين في الاستسلام كمثل القول: »ألا ترون… أن أوروبا بكل أمجاد تاريخها، وبكل إمكاناتها وطاقاتها الصناعية، وبكل ثقلها السياسي بعد الوحدة، قد انصاعت صاغرة وسلّمت »القرار الكوني« للولايات المتحدة، ثم سلّمت بإسرائيل كقوة مهيمنة وحيدة على الشرق الأوسط«؟!
من النموذج الفلسطيني إلى الدرس اللبناني (والقرار 425 تحديدù) تبدت أوروبا وكأنها ارتضت بالدور الثانوي، بعد مكابرة كانت تجد تعبيراتها الفجة في بعض التصريحات الفرنسية التي سرعان ما تسحب أو يلغيها المسلك الفعلي.
يقول البريطانيون بلسان واحد من أخبث دبلوماسييهم: حسنù، إنه قانون التحوّل. لقد دار الفلك وصار القرار أميركيù، فلماذا المعاندة؟! لذا، وبوعي كامل، ارتضينا دورنا الجديد، دور بيت الخبرة. إننا نبيع خبرتنا »المعتقة« والموثقة للسادة الأميركيين. أليست هذه مشاركة جدية في القرار؟!
* * *
بعد غد، الجمعة، سيكون الوفد الأوروبي في لبنان، وسيقوم بالزياح التقليدي أو الفولكلوري أو الشكلي بين الخارجية والرؤساء الثلاثة،
والأمل ألا يغرق الوفد الممتاز معنا في تلك المساحة التي تجتمع فيها النفايات الصناعية السامة (وقد جاءتنا من بعض أوروبا) مع النفايات السياسية المقرفة.
هل للبنان مكانة بعد لدى »حماته« القدامى الأوروبيين؟!
وهل يستطيع أن يرفع صوته بالموقف الجدي ومن الموضوع الأصلي، الاحتلال الإسرائيلي، حتى لا يصيبه مع الأوروبيين مع اصابه مع الأميركيين فيشرح ولا يقتنعون، أو يحدثهم في مصيره فيجيئه الرد عن الضمانات التي وفّرها ويوفّرها وسيوفّرها لأمن الاحتلال اسرائيلي؟!