لم يصدق الناس عيونهم للوهلة الأولى. فركوا عيونهم ملياً، دققوا في المشهد، فلمّا تيقنوا من صحة ما يرونه هزوا رؤوسهم كأنما لينفضوا منها وعنها ما علق فوق الذاكرة من مرارة ووجع وحسرة أخذتهم إلى اليأس!
المفاجأة أجمل من أن تصدق: رئيس مصر، في بيروت؟!
ولأن اليأس ولاَّد للريبة والشكوك فقد طغى، للوهلة الأولى، في الأوساط السياسية، تساؤل مزعج: أتراه جاء للتضامن معنا، أم هو يحمل رسالة تنذر بخطر أفظع يتهددنا غدا أو بعد غد، أم أنه قَدِم متعجلاً لمنع الجنون الباراكي من أن يدمر في لبنان المزيد من مرافقه ومنشآته وأهله؟!
لكن بسطاء الناس فهموا الرسالة، بغير حاجة إلى شرح أو تحليل.
وعلى الفور سقطت سنوات البعد وما حفلت به من مآس وانتكاسات وانحرافات وعادت صورة مصر إلى إشراقها القديم: ها هو الحبيب الغائب قد عاد، ها هو الأخ الأكبر المفتقد قد رجع بعد زمن من الضياع أو القهر أو العجز!
سقطت من الذاكرة، على الفور، ثلاثون سنة طويلة من الافتراق، وبشيء من الخوف استعاد بسطاء الناس بعضا من مناخات أواخر الستينيات وبداية السبعينيات حتى الموعد البهي لحرب العبور تشرين 1973، وإن ظل شيء من التحفظ يضبط العواطف حتى لا تفلت من عقالها بالمبالغة أو الحماسة أو الإسقاطات التي لا تطيقها الزيارة الحدث التي اتخذت طابع المفاجأة السعيدة.
ولقد فهم الناس معنى الزيارة ودلالاتها بمجرد أن رأوا صورة الطائرة الرئاسية المصرية تهبط في مطار بيروت وينزل منها حسني مبارك وصحبه ممن يعرفون، كعمرو موسى وأسامة الباز، أو لا يعرفون من الاعلاميين والإداريين..
انتبهوا على الفور الى أنهم أمام حدث منعطف تمنحه »رمزيته« قيمة تاريخية،
وكما حصل للبنانيين فإن سائر العرب قد فهموا الحدث برمزيته وتاريخيته..
أما عند العدو الإسرائيلي فلم تكن ثمة حاجة الى تفاصيل الزيارة وما دار فيها من أحاديث، لكي تستشعر قياداته جميعا، في الحكم وفي المعارضة، خطورة هذا الحدث والتداعيات غير المحدودة التي سيطلقها باتساع المدى العربي المفتوح، خصوصا وان العرب في كل أرضهم بالقيادات والمسؤولين قبل المواطنين يغرقون في المهانة والذل والشعور بالعجز الفاضح عن منع العدوان أو الرد عليه بمثله أو بأقوى منه.
هل من المبالغة القول إن آثار الزيارة أخطر وأبعد مدى من التقديرات التي افترضها »بطلها« فيها؟!
لقد شعر كل مواطن لبناني وكأن مصر، بشخص رئيسها، قد جاءته في بيته، تعزيه في من فقد شهيدا، أو في ما خسر نتيجة العدوان، تنصره وتشد من أزره وتؤكد له انها إن كانت قصرت في الماضي لأسباب خارجة عن إرادتها، فهي لن تقصر بعد اليوم، ولن تعود إلى عزلتها بعيدا عنه، ولن تكتفي ببيانات الاستنكار الحيية وذات اللغة الدبلوماسية الخشبية، وان عوضتها بعض الفورات الغاضبة للوزير عمرو موسى، أو لبعض الأقلام النظيفة.
ولدت الزيارة تيارا كهربائيا أقوى بما لا يقاس من ذلك الذي دمرته الغارة الإسرائيلية على محطات التحويل… وسرى التيار من أقصى لبنان إلى أقصاه.
وفي ما يتجاوز العاطفة ليؤكد الموقف السياسي فلقد لحظ اللبنانيون بتقدير ان مصر لا تعود الى لبنان كطرف مخاصم لطرف، في الداخل، ولا هي ترجع من موقع الخصومة أو المنافسة مع سوريا، بل هي تعود بالتنسيق معها الى حد التحالف في مواجهة التعنت الإسرائيلي في محاولة فرض »سلام الاحتلال«.
إن مصر تجيء بصورتها الأصلية: كأخ أكبر، لا خصومة له مع طرف ولا محاباة لطرف، لا تبغي تحقيق مصلحة آنية، ولا تجيء من أجل بناء محور تواجه به وعبره محورا عربيا مضادا، بل هي تجيء وكأن كل العرب قد جاءوا معها وضمنها، أو أنها تجيء لتجمع كل العرب من حول لبنان وسوريا في مواجهة عدوان الاحتلال.
ما قصّر العرب عن فهمه من مغازي الزيارة، مباشرة، استمعوا إليه صريحا ومباشرا عبر رد الفعل الإسرائيلي، فقد نظر الإسرائيليون الى زيارة مبارك لبنان وكأنها أقرب ما تكون إلى إعلان الحرب، ورأوا فيها تمردا على معاهدة كامب ديفيد وعلى »التطبيع«..
وليس بغير دلالة ان يصف مجلس الوزراء الإسرائيلي النتائج الأولية لزيارة مبارك بأنها »موجة من الكراهية والحقد ضد إسرائيل واليهود«،
فزيارة مبارك لم تكشف فقط مدى التعاطف العربي المكبوت (بالقصر أو بالقهر أو بالخوف) مع لبنان المقاوم ضد الاحتلال، باسم العرب ونيابة عنهم، بل هي كشفت أيضا عمق العداء الإسرائيلي للعرب جميعا بمن فيهم الذين وقعوا معها معاهدات الصلح واتفاقات الاذعان!
لقد رأت إسرائيل في الزيارة خطر عودة العرب إلى التلاقي ولو على قاعدة الحد الأدنى، فأرعبها مثل هذا الاحتمال، خصوصا وانه يهدد كل ما كانت قد جنته من مكاسب سياسية واقتصادية وأمنية، بل استراتيجية إجمالاً، عبر السنوات العجاف التي امتدت منذ »اغتيال« النتائج المرتجاة لحرب العبور تشرين 1973 وحتى آخر غارة على النور في لبنان.
ثم ان الزيارة منحت المواطن العربي فرصة التعبير عن رأيه المحجوب بالخوف أو بالمداراة في السياسة الاميركية حيال الصراع العربي الاسرائيلي خصوصاً، وتجاه العرب في مختلف أقطارهم اجمالاً.
من زمان ادرك العرب التلازم بل التطابق الكامل بين اسرائيل والادارة الاميركية، ولكنهم كانوا يحاولون التمويه على أنفسهم، ويصرون على اكتشاف التمايزات، ربما لعجزهم عن مواجهة »امبراطور الكون«، وعندما حانت لحظة مناسبة للتعبير عن رأيهم فانهم قد أعلنوه بوسيلة أو بأخرى: من استطاع التظاهر خرج الى الشارع ليحرق العلم الاميركي، ومن خاف من رد الفعل اكتفى بالكتابات الصحافية والتصريحات الرسمية التي تلمح من دون ان تصرح، ومن عجز عن هذا وذاك كتب الرسائل يلفت نظر اصحاب الامر في واشنطن الى حراجة وضعه في مواجهة جماهيره الغاضبة.
لم يأت الرئيس مبارك الى لبنان لاعلان الحرب على الولايات المتحدة الاميركية، بطبيعة الحال… لكنه حين سيزورها غداً فانه سيتمكن من ان يحدثها، ومن موقع الناصح، بانها تكتسب يومياً المزيد من الملامح الاسرائيلية، بحيث سيصعب في الغد وهو آت لا محالة التمييز بين الاسرائيلي وبين الاميركي كأعداء للعرب، في حقوقهم في ارضهم وفي سعيهم الى غد افضل بالخروج من وهدة التخلف ليلتحقوا بالعصر.
ولسوف يحدث الرئيس مبارك غداً، المسؤولين الاميركيين، ومن موقع الناصح، عن نضوج المقاومة في لبنان، وعن وعيها الباهر سياسياً، وعن انضباطها بمنطوق تفاهم نيسان، بما يسقط ليس فقط الذرائع الاسرائيلية، بل وكذلك الادعاءات الاميركية المتجنية والتي تبنت المنطق الاسرائيلي بل لعلها ذهبت فيه الى اقصاه، مما وحد نظرة العرب الى الاسرائيلي والاميركي، مرة اخرى.
وتبقى ملاحظتان عابرتان:
الاولى انه بغير تقصد، فان زيارة الرئيس حسني مبارك الى لبنان قد جاءت عشية الذكرى الثانية والاربعين لقيام دولة الوحدة العربية بين مصر وسوريا (في 22 شباط 1958)… وهي الذكرى التي ما زال العرب عموماً واللبنانيون خصوصاً، يحتفظون لها بمكانة ممتازة في قلوبهم وفي احلامهم.
الثانية ان الرئيس مبارك قد خص »السفير« بتحية تعتز بها حين اشار الى انه قد تأثر بما كتبته حول دور مصر وما طالبته به من ضرورة تأكيد حضور مصر ومن افتقاد لوزن مصر الذي يلجم الاعتداء الاسرائيلي بقدر ما يتأكد بالممارسة الحسية وليس بالتصريح الموارب أو بالكتابة عن بعد.
»اديني جيت، يا سيدي كما طلبتم… ادي مصر معاكم هنا في بيروت«
قال الرئيس مبارك.
ونحن نقول مرة اخرى: كنا واثقين ان مصر ستبقى لنا ومعنا بقدر ما حافظنا على آمالنا فيها وتقديرنا لدورها، برغم البعد »القسري« الذي طال كثيراً، واكثر مما يجب، واكثر مما يستحق لبنان بل العرب جميعاً بمن فيهم مصر.
اليوم نستطيع ان نؤكد اننا لسنا (وسوريا) وحدنا،
واليوم تستطيع مقاومتنا ان تعلن نفسها مقاومة باسم كل العرب ومن اجلهم جميعاً.
انها عودة الى الصح، سيكون لها ما بعدها… وهنا معقد الامل!