الشرق، إذاً، هو تركيا! والإسلام، أيضاً، هو تركيا، بالنسبة إلى الرئيس الأميركي الذي كاد «العرب» يعتبرونه «المخلّص» الذي جاء بضربة حظ قدرية ليكون منقذ أميركا من الضلال وإعادتها إلى جادة الصواب في علاقتها معهم: باراك حسين أوباما، الذي تختلط في نسبه دماء «إسلامية» وإن بجذور أفريقية!
تركيا، وليس أي بلد عربي، لا مصر الأعرق تاريخاً وتراثاً نضالياً والأعظم حجماً، ولا السعودية الأغنى أرضاً بالقداسة والنفط معاً.
تركيا هي المحطة الإجبارية بقدرتها على تأكيد جدارتها بدور قيادي في هذا الشرق، وهي المنصة المثلى لمخاطبة «المسلمين»، ومن ضمنهم «العرب» الذين فقدوا المكانة السامية التي كانت لهم ذات يوم، ومن قبل أن يتزايدوا عدداً حتى باتوا بمئات الملايين، ومن قبل أن تتعاظم ثروات بعضهم بحيث لم تعد بلايينها تقع تحت حصر، وهي التي أسهمت في تفريج «بعض» الأزمة المالية التي زلزلت النظام الاقتصادي العالمي الذي طالما اتخذ من أميركا النموذج وعنوان النجاح!
تركيا الإسلام والمعاصرة، والديموقراطية التي لم تجد حرجاً في حجاب المؤمنات، ولو كن نساء الرؤساء، خصوصاً أنها كانت طريق المؤمنين إلى الفوز في الانتخابات واستنقاذ السلطة من بين براثن «الجنرالات العلمانيين» الذين جعلوا تركيا الماضي مجرد قاعدة عسكرية أميركية ورديف سياسي ـ عسكري ـ اقتصادي لإسرائيل!
ولن يجرؤ أي قائد عربي، ملكاً كان أم رئيساً أم سلطاناً أم أميراً، على توجيه كلمة عتاب (فضلاً عن اللوم!!) إلى الرئيس الأميركي الجديد الذي اعتبروا فوزه انتصاراً مبيناً لهم (مع أن معظمهم كان مع مَن أذلّهم وأهان كبارهم، جورج و. بوش)، فألقوا عليه أحمال خيباتهم الثقيلة، مقدّرين أنه سيتولى عنهم حل مشكلاتهم جميعاً، مع شعوبهم، ثم مع إسرائيل، ثم مع دينهم الذي ألحق به «الأصوليون» شبهة الإرهاب.
وإنها لمناسبة جديدة تثبت للعرب ـ بقادتهم من ذوي الجلالة والفخامة والسمو ـ أن فرقتهم قد أخذتهم إلى الهوان وافتقاد الدور.
… علماً بأن هؤلاء القادة المعظمين كانوا، قبل أيام فقط، في قمتهم الحادية والعشرين، يقفون صفاً واحداً لالتقاط الصور التذكارية في مهرجان للأزياء والألوان المتباينة، وبعضها مبتكر جداً إلى حد أنه فريد في بابه، ليس له سابق ولن يكون له لاحق!
وكما أن القمة لم تعد مناسبة مفرحة أو منعشة أو استثنائية ولو بالتخمين والافتراض أو التمني، فإن التلاقي بين القادة العرب كثيراً ما تمّ بالحرج أو بالاضطرار، وكثيراً ما اقتصر على الشكل لأن التوغل في المضمون يؤدي إلى تفجير القمة بخلافات أهلها.
لم تعد القمم، طارئة أو عادية، موعداً سنوياً لاجتماع العرب وتوافقهم ولو على الحد الأدنى، بل هي انقلبت، أو تكاد، إلى عكس الغاية المرجوة منها: صار لها صورة الفضيحة، إذ تتبدى عبرها خلافاتهم مجسمة ومحتدمة حتى حافة الحرب بين «الإخوة» الذين انقلبوا إلى «أعداء»، وحتى بات اجتماع ـ مجرد اجتماع ـ قادتهم في مكان واحد حدثاً، وإن هو غالباً ما قدّم مشهداً فضائحياً دوت أصداؤه في العالم أجمع!
تصاغرت قضيتهم المقدسة فصارت موضوعاً للمساومة في بازار مفتوح، مع الأميركي كما الإسرائيلي: أعطونا الأمان وخذوا من فلسطين بقدر ما تشاؤون!
كانت هذه المنطقة «عربية»، بتاريخها الذي أعطاها اسمها، وبجغرافيتها التي أضافت إلى القيمة الموروثة عن الأجداد الرواد الأهمية الاستراتيجية الفائقة، قبل أن تتفجّر أرضها بالثروات الأسطورية..
لكنها الآن «بعض» الشرق الأوسط الجديد. أي مساحة قيمتها في الجغرافيا أهم من وزن أهلها، وقيمتها للغير، الأقوياء من الغير، أخطر بكثير من أن يفيد منها أبناء الذين اصطنعوا للعالم بعض تاريخه، قديماً، ثم في تاريخ قريب لم يمر عليه الزمن بعد.
بات على العرب الآن أن يسمعوا الحديث عن حاضرهم في منطقتهم بلغات أجنبية، بينها الإنكليزية والفارسية والتركية، فضلاً عن الفرنسية والألمانية إلخ!
وبات على العرب أن يتقبّلوا مستقبلهم كما يرسمه الآخرون، مَن كان وما زال «عدواً»، ومَن هربوا من مواجهته في مصالحه إلى توسل مصالحهم لديه.
إن القيادات العربية، بمجملها، باتت عبئاً على الحاضر وخطراً على المستقبل!
إن الأنظمة العربية، بمجملها، قد ألغت شعوب هذه الأمة، وتجاوزت حقوقها في مستقبل لها يليق بكرامة تاريخها ونضالاتها المعاصرة، لتحاصرها في واقعها المزري والمهين.
إنها أنظمة لا قضية لها إلا السلطة وتأبيد وجودها في السلطة، وإلى الجحيم فلسطين بقدسها الشريف، وحق الشعب في أن يبني مستقبله بجهده وأن يتمتع بحقوقه الإنسانية البديهية.
إنها أنظمة تلغي الإنسان فيها، وتلغي معه فكرة «الدولة»… فكيف سيحترمها العالم.
ولماذا يتكبّد باراك أوباما عناء زيارة المسؤولين فيها، وهم يتزاحمون على أبواب معاونيه طالبين مواعيد للتشرّف بلقائه والعودة بصورهم معه التي تمد في عمر أنظمتهم، ولو كره الكارهون!
هل نتوجه بالشكر إلى أوباما لأنه «شطب» من برنامج جولته منطقتنا التي كان فيها بعض عواصم القرار الدولي حتى عصر قريب… والتي لا يكف حكامها وبطانتهم عن تشويه تاريخها وتقزيمها لتصبح في حجم قبضاتهم التي من حديد يخالطه شيء من الذهب الرنان؟!