لم نكن بحاجة إلى كل هذه العتمة التي فرضها الاغتيال الإسرائيلي للكهرباء في لبنان، لكي نرى بوضوح مطلق صورة العدو وبالتلازم معها صورة »راعي العملية السلمية« والمبشِّر الأميركي الذي لا يتعب من التعهد للبنانيين بدعم أمنهم واستقرارهم وتأمين حدود بلدهم الصغير وازدهاره العميم.
على أن تلك العتمة كانت، في ما يبدو، ضرورية لكي يرى إخواننا العرب ما نراه بوضوح، ولكي يتنبّهوا إلى ما يدبَّر لهم جميعاً عبر »النموذج« اللبناني الذي بقدر ما وفَّر لهم من أسباب الاعتزاز والتقدير فإنه تحمّل عنهم (وأحياناً منهم) الضربات القاسية تأديباً له على صموده وحقه في أرضه.
تُمنع عنا الحياة، ثم يُمنع علينا الموت من أجل الحرية،
تؤخذ منا الأرض غصباً بقوة »الجيش الذي لا يُقهر«، ثم يُمنع علينا استخدام أرواحنا سلاحاً من أجل تحريرها.
فإذا ما عاندنا وواصلنا المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي وجدنا أنفسنا في حرب مع الإدارة الأميركية التي يسهل عليها اتهامنا بالإرهاب وتجديد عرضها المفتوح أمام إسرائيل من أجل تعزيز التحالف الاستراتيجي معها بمعاهدة دفاع (لا ندري ضد مَن؟!)!
لا أمل بالفصل أو التمييز بين الموقفين الأميركي والإسرائيلي: إنهما متلازمان حتى التطابق ومتكاملان حتى في قتل النور بعد الإنسان ومعه، واغتيال المستقبل بعد الحاضر البائس ومعه.
ومع أن الطلبة في مصر كما في لبنان، كما في مختلف أرجاء الوطن العربي كانوا أسرع وأصرح في التعبير عن رؤيتهم القاطعة في وضوحها للتماهي بين موقف حكومة إيهود باراك وموقف الإدارة الأميركية، فإن الذين لا يستطيعون الخروج إلى الشارع في أقطار أخرى قد وجدوا (أو هم سيجدون) وسائلهم لرفع أصواتهم ومن ثم قبضاتهم في وجه التحالف الأميركي الإسرائيلي المعادي للإنسان العربي وحقوقه الطبيعية في أرضه وفي غده الأفضل.
لقد »أنارت« العتمة التي فرضها الإسرائيلي على لبنان المسرح كله فلم يعد ثمة مجال لحسن النية أو لتبرير الجريمة بقصور الرؤية أو بالغلط غير المقصود.
ومن حق الرئيس حسني مبارك أن ننوّه بغضبته لكرامته التي تجلت في أحاديثه الصحافية التي توالت على امتداد ثلاثة أيام، فأعادت تظهير الموقف المصري على حقيقته وليس كما حاول »اقتناصه« وتشويهه إيهود باراك، حين وجَّه (بالعبرية) تهديداً بضرب لبنان تأخر إيصال مضمونه إلى مضيفه الكبير الذي لم يكن يتصور أن تبلغ الوقاحة بزائره مثل هذا الحد الذي لا يمكن قبوله.
لقد أعاد الرئيس مبارك الموقف المصري إلى نصابه الطبيعي الذي عبّر عنه طلبة الجامعات الثلاث اليوم (القاهرة وعين شمس والأزهر) أفضل تعبير، ولو أنه تعذر عليهم الخروج من الحرم الجامعي.
»إن أحداً في العالم العربي لن يرضى بالتنازل عن شبر من الأراضي العربية«.
»ان التهديدات من مركز قوة لن تجدي نفعاً، وأن التصريحات المتعالية تبدد الثقة«، كما أن المناورات الصغيرة تفسد ولا تفيد..
»إن من يظن أن اللبنانيين سيذهبون إلى طاولة التفاوض من دون سوريا ومن دون التنسيق معها مخطئ…
»إن ما صدر عن ديفيد ليفي وتهديداته بحرق لبنان، وآخر ما قاله شيمون بيريز في دافوس من أن إسرائيل جزيرة نظيفة وسط منطقة قذرة وبقعة غنية في محيط فقير.. إن مثل هذه التصريحات لا تنساها الشعوب بسهولة..
»إن كثرة القتل والتدمير وإجمالاً ما تقوم به إسرائيل ضد لبنان يعمّق الكراهية لها في العالم العربي«.
من زمان كنا ننتظر في لبنان أن نسمع من مصر، ومن رئيسها بالذات، مثل هذا الموقف الذي نتمنى أن يجد صداه في إجراءات عملية، داخل مصر، وفي سائر أرجاء الوطن العربي… حتى لا نظل وحدنا نرى الحقيقة في العتمة بينما تعشى عيون إخواننا الغارقين في النور فلا يرونها، فإذا ما رأوها تجاهلوها.
إن مثل هذه التصريحات تعزينا في خسائرنا، فإذا ما تجسدت في مواقف عملية عجلت في انتصارنا، الذي لا يمكن أن يكون لنا وحدنا، والذي سيضيف إلى رصيد كل عربي كرامة واعتزازا وإحساساً بالقدرة.
إن مقاومتنا عربية بمردودها.
وأرضنا غالية علينا… لكن الدماء التي ترويها ستنبت رايات وحراباً وإرادة وقدرة على المواجهة في كل الأرض العربية.
وليس من العدل أن نموت مرتين: بالقصف الإسرائيلي وبالتجاهل العربي أو بما هو أسوأ، بالصمت عن الجريمة الإسرائيلية التي يحوّلها الأميركيون إلى حرب ضد الإرهاب!