أعطت الولايات المتحدة الأميركية لقمة بيروت الإذن بالانعقاد!
وأعطت إسرائيل أرييل شارون، كخطوة تنفيذية، الإذن »للرئيس الأسير« بحضورها، ربما لكي تحد من تأثير انعقادها وسط بحر الدماء الفلسطينية، بما يُحرج المشاركين فيها فيُخرجهم عن النص المطلوب!
لكن واشنطن وهي »تجيز« انعقاد هذه القمة، الدورية العادية، تحاول خفض سقفها سلفاً بحيث تعجز عن تحقيق الحد الأدنى من المطالب العربية، وأخطرها حماية الانتفاضة الفلسطينية التي فرضت على القمة جدول أعمالها بوهج دمها المقدس الذي يفتح باب الأمل بتغييرات تتجاوز المقدور والمفروض.
ولم يعد ممكناً النظر إلى »الأفكار« التي أطلقها الأمير عبد الله بن عبد العزيز، في اتجاه واشنطن بداية، ثم بدأ »تعريبها« تدريجياً حتى كادت تكتمل في اجتماع مجلس الجامعة العربية في القاهرة، أمس، على أنها »خواطر« أو »رؤى« صدرت عن مسؤول مهتم أو مهموم، بل لا بد الآن من »قراءتها« من جديد، في ضوء التطورات التي »أملتها« الإدارة الأميركية على شارون وحكومته الإسرائيلية.
لقد تراجع شارون خطوتين إلى الوراء، فماذا تراها ستكون خطوته إلى الأمام، وأين، ومتى؟!
فبعد »تسليمه« بالعودة إلى »اللقاءات الأمنية« مع الفلسطينيين من غير شرطه المستحيل المسبق بوقف إطلاق النار لمدة أسبوع (مرشح لأن يتمدد إلى سنة أو سنوات طالما أن جيشه ومستوطنيه لا يكفون عن إطلاق النار).
… ها هي الخطوة الثانية، وقد اندفع إليها ليلاً وفوق طوفان من الدم والدمار، إذ أعلن أخيراً أن عرفات يستطيع وقد لبى شروطه أن يخرج بإذنه من رام الله!
لكن هذا الإذن لا يشمل الإفراج عن شعب فلسطين، وهو يصدر »كمكرمة« منه ومن دون أن يوقف المذبحة، ومن دون أن يبدي أي استعداد جدي للبحث في مستقبل هذا الشعب الباسل الذي فُرضت عليه، ومنذ عقود، معادلة مستحيلة، أن يشتري حقه في وطنه بحياته، أو يشتري حقه في الحياة بوطنه!
لقد فرغ شارون، أو كاد، من تدمير أسباب الحياة، البيوت والمرافق والمنشآت ومخيمات اللجوء والمستشفيات وسيارات الإسعاف والمزارع والشجر، وقطع أوصال الضفة الغربية وغزة بحيث بات مستحيلاً التواصل بين أفراد الأسرة الواحدة، وحول كل »المناطق« إلى معتقلات جماعية.
على أن أخطر الضحايا كانت »الاتفاقات« وأولها اتفاق أوسلو، بمعزل عن بؤسه!
إذن، سيكون على قمة بيروت أن تكمل بعد أسبوعين ما قصرت فيه وعنه قمة القاهرة الاستثنائية قبل ستة عشر شهرا، أي حماية الانتفاضة ورعايتها ودعمها حتى تحقق الحد الأدنى من الأهداف الوطنية لشعب فلسطين وحقوقه في أرضه وفي »دولة« له ولو على »جزء« منها لا يصل إلى ربع مساحتها الأصلية.
فالانتفاضة التي فرضت الانعقاد الطارئ لقمة القاهرة حتى لا تظل »القضية« في الشارع وشعارها »المسجد الأقصى«، تكثف الغضب الشعبي وتنذر بتفجيره في وجوه المقصرين في حماية الشعب الفلسطيني، حاصرت بالأمس مبنى الجامعة العربية في القاهرة بدماء قوافل الشهداء التي فرضت مناخاً جديداً داخل إسرائيل ذاتها، كما داخل الإدارة الأميركية وأعادت للمقاومة اعتبارها كقوة تغيير للموازين والمعادلات في كل الأقطار القريبة من فلسطين أو البعيدة عنها.
***
أين »المبادرة« السعودية، التي ينكر أصحابها كونها »مبادرة«، من قمة بيروت وفيها؟!
لقد كشفت اجتماعات مجلس الجامعة العربية أن »أفكار« الأمير عبد الله بن عبد العزيز، التي أطلقها وبقصد مقصود، في اتجاه واشنطن، وطُرحت أول ما طُرحت باللغة الإنكليزية وعبر مقال لصحافي لم يُعرف بحبه للعرب، شعوبا وقيادات، إنما كانت مجرد »مقدمة« أو »مدخل« سيكون على غيره وعبر التعارض والتوافق أن يعيد صياغتها لتكون »مبادرة«.
على هذا فلن تصل »أفكار« الأمير عبد الله إلى قمة بيروت بنصها الأولي الغامض قصداً، وغير المكتملة صياغته قصداً، بحيث يفهم منها كل طرف ما يشاء ويأخذ منها ما يناسبه، دون حرج تجاه السعودية أو تهيب من الغضب الأميركي أو خوف من الانتقام الإسرائيلي.
فما قصده ولي العهد السعودي أن يوفر مخرجاً عربياً لائقاً للإدارة الأميركية التي كانت نفضت يدها من الفلسطينيين تاركة لأرييل شارون أن يؤدبهم بوسائله حتى إذا ما استسلموا تماما تقدمت لرعاية »الحل النهائي« الذي ستكون قد فرضته الدبابات والحوامات وطائرات الأف 16 والمجازر الجماعية اليومية.
بالمقابل كانت الإدارة الأميركية، وما زالت، تمارس على العرب الابتزاز المزدوج: إذا أردتم الأمن للفلسطينيين فعليكم أن تساعدونا على تدمير العراق.
وها هو نائب الرئيس الأميركي يبدأ جولته »الحربية« على تسع من الدول العربية، ليؤمن الدعم السياسي وربما الحشد العسكري اللازم للحرب الأميركية الجديدة ضد العراق وشعبه، بحجة إنقاذه من حاكمه الظالم!
… وها هو في خط مواز، الجنرال زيني يحزم حقائبه ليجيء مرة أخرى لتثبيت وقف إطلاق النار في الشوارع، بينما مطالب الشعب الفلسطيني مطموسة تحت الرفض الإسرائيلي ودباباته.
على أن »مناخ« بيروت السياسي، بيروت التي حققت نصراً باهراً على الاحتلال الإسرائيلي، وبالدم أيضا سيفرض على القمة قدرا من التوازن، خصوصا وأن الصمود اللبناني السوري يقدم النموذج الضد للتخاذل العربي و»لتسول« العطف الأميركي و»الرحمة« من أرييل شارون.
وبالتأكيد فإن بيان القمة العتيدة سيحمل الكثير من المضامين التي أعادها الى التداول البيان اللبناني السوري المشترك الذي صدر تتويجاً للزيارة الناجحة التي قام بها الرئيس السوري بشار الأسد إلى لبنان، فأعاد بها الاعتبار الى »العلاقات في النموذج« بين دولتين شقيقتين ومحاصرتين ومعرضتين للضغوط السياسية (الأميركية) والعسكرية (إسرائيل).
ولقد حصلت الصياغة الأولى »لأفكار« الأمير عبد الله لتصبح »مبادرة« خلال زيارة الأسد للسعودية، فبات لها سياق، وأعيد إليها المضمون المتكامل لتتسق مع الحد الأدنى من الحقوق العربية الضائعة أو المضيعة.
وما جرى في القاهرة، خلال الأيام الثلاثة الماضية، تجربة أولية لما سوف تشهده قمة بيروت، وسيجيء النص اللبناني السوري (الفلسطيني) للمبادرة السعودية مختلفاً جداً عن الصيغة الأولية المبهمة للمقتطفات التي نشرت بداية بالإنكليزية، ربما ليفهمها كل العرب.
والحمد لله أن عملية »التصحيح« قد تمت في اجتماع وزراء الخارجية وإلا لكانت طارت القمة بتأثير الرياح الأميركية.