لا مجال للنكات السمجة في زمن المآسي وبينما الدم الفلسطيني يغطي وجه الأرض ويفضح بالأحمر القاني طبيعة إسرائيل (لمن كان أو ما زال يتوهم فيها غير ما هي عليه)، ومن ثم طبيعة احتلالها الاستيطاني العسكري المعزز بالعنصرية وبأحقاد توراتية معتقة تتفجر في وجه من تستضعفهم حروب إبادة لا ترحم طفلا ولا تستثني شيخا ولا تقيم اعتبارا لمعبد أو مزار مقدس.
بين هذه النكات السمجة ما أعلن، أمس، عن »اتفاق لوقف العنف والعودة بالوضع إلى ما كان عليه في 28 أيلول الماضي«، بين رئيس السلطة الفلسطينية ووزير التعاون الدولي في حكومة إيهود باراك، شمعون بيريز.
كأن الانتفاضة المجيدة التي تدخل يومها السادس والثلاثين بشهدائها الذين تجاوزوا مئة وسبعين وجرحاها الذين زاد عددهم عن خمسة آلاف، مجرد »حادث سير« أو »اشتباك« نتيجة سوء فهم عارض بين الفتية الفلسطينيين (الذين لا يحبون المدارس ويكرهون الحياة!!) وعناصر غير منضبطة من »جيش الدفاع الإسرائيلي« تصدت لتظاهرة غير مرخصة بعنف زاد عن حده، أو أنها تجاوزت أوامر قيادتها التي لا تطلب من دنياها إلا أن يكون »على الأرض السلام«.
أو كأن بيريز يملك من قوة التأثير والهيبة، فضلاً عن قوة الإلزام، ما لم يكن يملكه ذلك الحشد الدولي الفخم الذي تلاقى متعجلا ومرتبكا في 16 تشرين الأول الماضي في منتجع شرم الشيخ، وضم الى جانب »المضيف بالإكراه« الرئيس المصري حسني مبارك الرئيس الأميركي بيل كلينتون، ورئيس حكومة إسرائيل (رئيس بيريز) إيهود باراك والمفوض السامي للاتحاد الأوروبي والأمين العام للأمم المتحدة، وياسر عرفات بطبيعة الحال.
إن تلك القمة الطارئة لم تنجح في لجم الهجمة الدموية الإسرائيلية على الفتية الذين نزلوا إلى الشوارع ليطالبوا بأبسط حقوقهم في أرضهم، كبشر وكمواطنين لهم هوية محددة… بل إن العنف الإسرائيلي تصاعد في حدته بعدها، ثم بعد القمة العربية الطارئة التي فرضها هلع الحكام من جماهيرهم الغاضبة، فتجاوز الفتية في الشارع إلى البيوت في القرى والمدن، يكمل حصار الموت قتلاً أو تجويعاً من حول الفلسطينيين في كل أرضهم.
ومع التسليم بعبقرية شمعون بيريز وقدراته السحرية فمن الاحتقار لعقول الناس أن يقال إنه نجح في الوصول الى »اتفاق موقع« حول وقف العنف وإعادة الوضع الى ما كان عليه قبل تفجيره باقتحام إسرائيل حرم المسجد الأقصى بأرييل شارون!
للمناسبة: كان الرئيس الفرنسي الراحل يطلق على بيريز تسمية »صديقي الحمار«.. وقد وصل الرجل إلى السلطة بعد طويل صبر والعديد من الخيبات والمصادفات القدرية أبرزها اغتيال قائده الثاني إسحق رابين وتحت لافتة »السلام« ومشاريع »التعاون الاقتصادي«، لكنه لم يلبث طويلاً حتى خرج من باب القتلة والسفاحين الأغبياء.
ماذا يمكن أن يكون في الاتفاق: سحب الدبابات الإسرائيلية من مداخل المدن والقرى الفلسطينية، ومن محاور الطرق، مقابل سحب الحجارة من أيدي الفتية الفلسطينيين؟!
أم وقف القصف بالطائرات ومدافع الدبابات مقابل وقف الهتاف »الشهيد حبيب الله«؟!
إن هذا القفز من فوق الحقيقة السياسية لطبيعة الانتفاضة ومطالبها يتجاوز تشويه سمعة الشعب الفلسطيني وتحقيره الى استغباء العرب بل العالم كله.
إنها إهانة جارحة للفلسطينيين شهداء وأحياء: كأنهم بلا قضية، ثم إنهم لا يقدرون نعمة الحياة، ويفضلون أن يُقتلوا في الشارع على الذهاب إلى المدارس والجامعات أو إلى مكاتبهم وإلى مراكز الانتاج.
لقد نزل الفلسطينيون إلى الشارع لأسباب سياسية، واجهوا الدبابات والبنادق بصدورهم العارية، بحجارتهم الصغيرة، بهتافاتهم، بقبضات أيديهم الملوحة في الهواء، لأسباب سياسية.
لم يجدوا وسيلة أنجع في التوكيد على هويتهم، على حقهم في أرضهم، على حقهم في دولة لهم يجتمعون في أفيائها وينهون حالات اللجوء والتشرد في الشتات والغربة في الوطن، في مواجهة احتلال لعله الأشرس في التاريخ، خصوصا إذا ما تذكرنا عنصريته.
لقد أرادوا أن ينبهوا العالم الى الظلم الفادح اللاحق بهم.
ومع أنهم نجحوا في لفت انتباهه فإنه ما لبث ان طمس حقيقة نضالهم بأن صنف الانتفاضة تحت عنوان »العنف« أو »الأزمة في الشرق الأوسط«، وظل مصراً على تغييب اسم فلسطين وحق شعبها فيها وفي دولة على أرضها أرضه.
أما العرب عموما، والمسؤولون منهم بشكل خاص، ففضلوا التعاطي مع هذه الانتفاضة التي أعادت إليهم قدرا كبيرا من الاعتبار، وكأنها »فورة« أو »هبة« عفوية طالت بأكثر مما يجب، ولكنها لا يمكن (ولا يجب) أن تدوم أكثر وإلا وصلت نارها إليهم فأحرقت استكانتهم واستسلامهم للقدر الأميركي الإسرائيلي!
ومفهوم، والحال هذه، أن يندفع بعض الفلسطينيين في مواجهة القتل الجماعي وتجاهل القضية السياسية إلى عمليات تتجاوز قواعد الانتفاضة فتصل إلى العمليات الخاصة كالسيارة المفخخة في القدس أمس، والتي تجيء في باب الرد على العنف الرسمي المنظم بعنف مرتجل قد يطال بعض المدنيين، مما يسهل استثماره لتبرير المزيد من الوحشية الإسرائيلية في التعامل مع الفلسطينيين!
ولكن ماذا يفعل الممنوع من إعلان هويته إلا بالموت؟
ماذا يفعل المحروم من حقه في الاعتراف به مواطنا في أرضه، وإنسانا له الحق في الحياة، أكثر من أن يستشهد لتأكيد هذا الحق؟!
اتفاق عرفات بيريز هل هو مجرد هدية للمرشح الأثير في الانتخابات الأميركية؟!
هل هو مجرد هدنة لتأمين مزيد من الأصوات لآل غور، مرشح كلينتون وخليفته المحتمل، وفي مجال رد الجميل للرئيس الأميركي الذي أعطى من وقته الكثير للاستماع إلى الحقوق الفلسطينية ثم أعطى للوحشية الإسرائيلية كل الدعم وكل التغطية السياسية اللازمة؟!
القضية السياسية للفلسطيني، برغم كل الدم المراق على جنباتها، لم تدخل مع الأسف كقوة مؤثرة في الانتخابات الأميركية الدائرة بين متشابهين ينافس واحدهما الآخر على تأييد القاتل وإدانة الشهيد..
ولن يُدخلها اتفاق عرفات بيريز، إذا ما صمد لخمسة أيام، دائرة الاهتمام فضلاً عن التأثير، إلا بما يفيد السفاح الأصيل (وليس المقلِّد) إيهود باراك.
والانتفاضة لن تصير قضية سياسية إلا بالعرب، إذا وجدوا أو انتبهوا أو… تغيروا!