طلال سلمان

استذكار قاء مطول مع لجنة تحقيق دولية فلنمنع اغتيال رفيق حريري مجددا فتنة

في الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة الواقع فيه الخامس من آذار عام 2010 جاءت لمقابلتي في مكتبي في جريدة «السفير» لجنة تحقيق تابعة لمكتب المدعي العام الدولي في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
كان استغرابي للتأخر في الاستماع الى شهادتي أعظم من تهيبي الجلوس الى السيدتين العاملتين في مكتب المدعي العام، وإحداهما هولندية والثانية اوسترالية، ومعهما المترجمة اللبنانية: ماذا يمكن ان يفيد استذكار الوقائع بعد خمس سنوات وعشرين يوماً على الجريمة وكل ما سبق التحقيق فيها ثم ما رافقه من لغط وتقولات واتهامات مجانية وحملات سياسية واستثمار مفضوح وتزوير للوقائع وارتباكات في تقارير المحقق الدولي الاول، أبرزها شطب اسماء قيادات سياسية بارزة من تقريره الأساس سرعان ما «اكتشفها» الاعلام الأميركي فنشرها!
جلست إلى لجنة التحقيق الدولية، كشاهد، لمدة زادت قليلاً على خمس ساعات. أستمع إلى أسئلة ساذجة وإلى استفسارات عن أمور لا قيمة فعلية لها، كسؤالي مثلاً: على أي رقم هاتفي كنت تتصل بالرئيس رفيق الحريري؟! أو سؤالي: كيف كنت تذهب إلى لقائه، بالسيارة أم بوسائل أخرى؟! وفي أي غرفة من منزله كنت تلتقيه؟ ومن كنت تجد هناك؟!
لم تتوقف اللجنة، مثلاً، أمام واقعة انني بين أواخر من التقوا الرئيس الشهيد في منزله، بين الساعة الثامنة من مساء الأحد 13 شباط والساعة العاشرة إلا ثلثا… وكان الحوار سياسياً بامتياز، خصوصاً انه لم يكن للنشر (ولم أعرف إلا صباح اليوم التالي انه كان قد التقى قبلي زميلنا في «السفير» عماد مرمل وأدلى بتصريح مهم جداً اعتمد كوثيقة بعد استشهاده، باعتباره آخر ما قاله في تحديد علاقته بأطراف عدة، أبرزهم سوريا وقيادتها).
لم توجه إليّ اللجنة سؤالاً واحداً محدداً. كانت الأسئلة جميعها عامة جداً، يمكن طرحها على أي مواطن في الشارع. وكان الجهل بالناس وبأحوال البلاد وبمواقع القرار فيها فاضحاً… بل ويمكنني القول إنني شعرت ـ في ختام اللقاء ـ بأنني قد أهدرت خمس ساعات طويلة مع المحققتين اللتين أنهكتاني بأسئلة ساذجة وبالتوقف أمام تفاصيل لا تعني شيئاً، وتكرار التساؤلات حول أمور تفصيلية يعرفها أي عابر سبيل ساقته الظروف إلى لبنان في أعقاب الجريمة التي استهدفت الرئيس الشهيد، قبل خمس سنوات وعشرين يوماً من تاريخ هذا اللقاء العبثي.
كذلك كان انطباع الزميلين فيصل سلمان وعماد مرمل، وإن كان اللقاء مع مرمل قد اتخذ طابعاً فكهاً إلى حد ما، حتى لا نقول: كوميدياً.
كانت المحققتان في غاية الجدية، والأولى ـ التي يبدو أنها المسؤولة ـ متجهمة حتى العبوس، وقد رفضت ان تشرب قهوة أو حتى ماء، برغم طول مدة «الاستجواب» المرهق لطرفيه. ولم يظهر عليهما ما يوحي بأنهما تعرفان الكثير عن تاريخ الشهيد وعلاقاته مع المسؤولين سواء في السعودية أو في سوريا، خاصة أو مع القوى السياسية المختلفة في لبنان… مع وعيي بأن من واجبهما طرح الأسئلة فحسب، لكن الأسئلة توحي أو تدل على معرفة ما، أو إحاطة ما بالموضوع أو بالجهات أو بالاشخاص، من خلال الملفات التي لا بد قد اطلعتا عليها قبل تكليفهما مهمة الاستماع إلى «شهود» آخرين لم تظهر الحاجة إلى إفاداتهم من قبل، ولعلها لم تتأكد من بعد… اللهم إلا إذا كان القصد «التغطية» على جولة استماع إلى «شهود» آخرين، تمهيداً لما سوف يكون.. ولما يعزز الشكوك العميقة بكفاءة لجنة التحقيق وجديتها وقدرتها على متابعة جريمة بهذا الحجم.
[ [ [
لماذا استذكار وقائع هذا «الاستجواب» اليوم؟!
لأن سياق استثمار التحقيق الدولي، في بيروت، قد اتخذ منذ بعض الوقت مساراً جديداً، بعد إسقاط الاتهام التشهيري بسوريا والذي تفجر مع اللحظة الأولى للاغتيال ثم امتد لأربع سنوات طويلة، شاملاً القيادة السياسية فيها وجيشها ومخابراتها وصولاً إلى العمال الذين كانوا يبيعون عرقهم بالرغيف، في ورش البناء أو في المزارع والمخابز والمصانع وأشكال العمل المياوم جميعاً.
تمت تبرئة سوريا، فجأة، ومن دون سابق إنذار… ثم تحويل المؤشر بالاتهام المخطط له إلى «حزب الله»، تتويجاً لحملة شرسة وممتدة على سلاح المقاومة بهدف كسر حصانته المستمدة من دماء الشهداء التي بذلت من أجل تحرير الأرض والإرادة.
وكما في اتهام سوريا، من قبل، انطلقت الحملة، بداية، من عواصم بعيدة، غربية بالأساس (مجلة ديرشبيغل الالمانية، جريدة لوفيغارو الفرنسية) سرعان ما انضمت إليها أطراف سياسية عربية (في القاهرة وبعض الجزيرة والخليج).
وكما في اتهام سوريا، من قبل، تلقف الكرة سياسيون لبنانيون يتعيشون على استثمار جريمة الاغتيال، وما كانوا لولاها ليصيروا أصحاب أسماء (وصور) معروفة، واندفعوا يكرزون علينا الاتهامات السابقة مع تبديل اسم باسم، مستخدمين «الأدلة» و«البيّنات» ذاتها التي سحبت من التداول بعد انكشاف الزور والتزوير فيها، وإن بقيت صالحة للاستثمار، خصوصاً وقد تعززت بدخول إسرائيل بقوة إلى الحلبة واتخاذها موقع المدعي العام وتعزيز الاتهامات العتيقة ببعض الأسماء في القيادة الميدانية للمقاومة.
بات للخطة الآن هدف محدد: إثارة الفتنة… فإن تعذر اطلاقها عمياء تدمر الوطن وأهله، يظل ممكناً التشهير بالمقاومة، كنهج، عن طريق تطئيفها بداية، ثم إنزالها من مرتبتها السامية الى درك المتهم بارتكاب جريمة مهولة بلغ استثمارها من النجاح في المرحلة السابقة حد إخراج سوريا (دولة بشعبها وجيشها) من لبنان تطاردها اللعنات والإدانات والتهديد بالمحاسبة دولياً!
وفي تقدير المخططين والمنفذين للخطة الجديدة انها ستنجح في تحقيق بعض أهدافها، حتى وإن كشفتها الوقائع والبيّنات والأدلة مستقبلاً: المهم ان اتهام المقاومة سيكسر هالة الاحترام التي تحيط بتاريخها المجيد وقيادتها المميزة باختراق المستحيل وتحقيق النصر على العدو الذي لا يقهر، مما أحلّها في مرتبة رفيعة من الاحترام والتقدير على المستوى العربي (والإسلامي) وأكسبها قلوب الجماهير المقموعة والمحرومة من الانتصار حتى في مسائل حياتها اليومية فكيف إذاً في مواجهة العدو الإسرائيلي الجبار؟؟
لا بد من تحطيم النموذج الفذ الذي طالما تطلعت إلى مثله الجماهير العربية المسحوقة والمضيعة قدراتها والمقموع تحركها في سبيل لقمة العيش الكريم فكيف إذا ما اتصل الأمر بتحرير الأرض وتحرير الارادة من أجل صنع الغد الأفضل؟!
انها حرب عالمية بقيادة أميركية ـ إسرائيلية وبأدوات عربية ومحلية تشن على فكرة المقاومة ذاتها، عبر هذا الهجوم بالاتهام المهين: ارتكاب جريمة اغتيال سياسي لقائد كبير طالما كان صديقاً للمقاومة وصاحب دور غير منكور في حمايتها ثم في انتصارها!
آخر ما تهتم به وله هذه الحرب هو الشهيد رفيق الحريري. إنه في حساباتها الآن استثمار مجز، قد تحقق به وعبره ما عجزت عن تحقيقه من قبل…
ولذلك صدرت أوامر عمليات شبه معلنة، أميركية وإسرائيلية (وعربية)، بنقل المعركة مع المقاومة إلى الداخل اللبناني الذي يعج بالمتناقضات والانقسامات والخلافات السياسية المموّهة بمصالح الطوائف والمذاهب التي كثيراً ما كانت المخبأ الأمين للمصالح الدولية المتناقضة بالضرورة مع استقرار هذا الوطن الصغير ووحدة شعبه واطمئنانه إلى غده.
فلنرحم الشهيد رفيق الحريري ولا نعرضه لاغتيال ثالث قد يذهب بلبنان جميعاً.

Exit mobile version