أوقفت إسرائيل عملياتها العسكرية ضد لبنان، لكنها عملياً واصلت حربها عليه بأساليب أقل كلفة عليها، ولكنها ليست أقل إضراراً به، في اقتصاده وفي حياته اليومية. إنها الآن تتخذ لبنان رهينة من خلال الحصار الذي تفرضه عليه براً وبحراً وجواً.
إن دولته محاصرة، لا يأتيها ضيف ولا يستطيع مسؤول فيها أن يسافر إلا بإذن من إسرائيل ممهور بأختام تحمل نجمتها السداسية الأضلاع.
… وشعبه محاصر، لا يستطيع أي مواطن أن يتحرّك بحرية سواء بالطرق البرية (الطبيعية) أو عبر البحر، أو جواً إلا بإذن منها، ووفق خط سير تحدده له.
ثم إنها تقرّر لشعب لبنان كم من الساعات يمكنه أن يحظى فيها بنور الكهرباء، لأنها توقف الناقلات الحاملة إليه الفيول والمازوت والنفط عموماً، في عرض البحر، وتقرّر وفق مزاجها الخاص متى تسمح لها بإكمال رحلتها إلى مقصدها سواء أكان مرفأ بيروت أو طرابلس أو الجية أو صور وصيدا… وبالتالي فهي تتحكّم بحركة السير عموماً والتواصل بين الأهل الذين فرّقت بينهم الحرب، ثم بينهم وبين مدنهم وقراهم ليستكشفوا كم من بيوتهم ما زال قائماً وكم منها قد تهدم وكم من مرافقهم قد دُمّر وكم منها أنقذته المصادفات أو أخطاء الطيارين.
لقد توقفت عمليات القصف التدميري الشامل، براً وبحراً وجواً، هذا صحيح.. وتوقف الهجوم البري المكلف بضحاياه من الضباط والجنود ودبابات الميركافا، وتوقف بالمقابل الرد بالصواريخ على العديد من المدن والبلدات والمستعمرات والمراكز العسكرية الإسرائيلية..
وبديهي أن حجم الدمار الذي خلفه ذلك القصف الوحشي المتصل لثلاثة وثلاثين يوماً يتجاوز أي تقدير، وإن كانت الحسبة الأولية قد اعتمدت مبلغاً يناهز الخمسة مليارات دولار لكلفته.
إن لبنان ما زال في حكم الرهينة للقرار الإسرائيلي بمحاصرته براً وبحراً وجواً… ثم إن الجيش الإسرائيلي يماحك الجيش اللبناني في الجلسات التي تعقد برعاية الأمم المتحدة، فيبدل في خططه، ويعيد تقسيم المناطق المحدودة التي احتلها في الساعات الأخيرة، كي يفرض أمراً واقعاً يحسّن من موقعه التفاوضي، فيترك قرية هنا ويتمسك بتلة هناك حتى إذا نوقش وطولب بالالتزام بمنطوق القرار 1701 انتبه فجأة إلى أن له جنديين أسيرين لدى حزب الله فطالب بإطلاقهما.. وقيادته تعرف أن هذا الأمر ليس وارداً، وأن لذلك شروطاً أخرى، وأن
الوسطاء الكبار وبالذات الأميركيين لم يتوقفوا طويلاً عنده، ثم إن القرار لا يضع الإفراج شرطاً للانسحاب أو لقدوم القوات المطلوبة لتعزيز قدرات اليونيفيل الموجودة أصلاً في لبنان، التي كانت ولا تزال موضع ترحيب اللبنانيين كلهم، و حزب الله على وجه التحديد.
إن إسرائيل تفرض على لبنان شروط المنتصر، كأنها قد كسبت الحرب على أرضه.. وهذا غير صحيح. يكفي للتدليل على انتصارها اضطرارها إلى إطلاق الرهائن الخمسة الذين اختطفتهم من بعلبك بعملية إنزال أسطورية وفقت فيها إلى اصطياد حسن نصر الله… لتنتبه، في ما بعد، الى أن من اختطفته قوات النخبة إنما هو صاحب محل تجاري، في مدينة الشمس، وأن تهمته كانت أنها ضبطته يلعب الليخة في منزله مع بعض أقاربه وجيرانه.
إن لبنان بنوره ومطاره، بمرافئه وحرية حركة مواطنيه، بصلته بمحيطه وبالعالم، ما زال رهينة لدى إسرائيل، تحاول أن تبتزه بحصارها فتفرض عليه ما أغفل ذكره القرار 1701 من شروط كانت تطلبها.
إن إسرائيل تحاصرنا الآن بالعتمة، وبالتحكّم بحدودنا والمعابر، وتفرض على كل زائر، عربياً كان (!!) أو أجنبياً أن يحصل على إذنها، كما تقرّر لمن تسمح من المواطنين بالسفر، ولمن تكلف السلطات الأردنية بإبلاغ بيروت قرار منعه من المغادرة، كأنها السلطة ذات الحق بالقرار في ما يتصل بشؤون اللبنانيين.
إنها تحاول أن تحظى بكل ميزات الاحتلال التي عجزت عن تحقيقها بالنار!
وهي تشيع أن على لبنان أن يتعايش مع هذا الواقع الجديد..
وربما كانت هذه المسألة التي لا بد من حسمها مع وصول قوات اليونيفيل المجددة وإلا تكون إسرائيل قد استرهنت لبنان، من خارج القرار، بينما تجيء القوات من داخل القرار لتجد نفسها أمام أمر واقع لا يدخل في نطاق صلاحياتها بينما هو يفتح الباب واسعاً أمام ابتزاز إسرائيلي للبنان تحاول معه أن تأخذ سلماً ما لم تأخذه حرباً.
ويبدو أن الرئيس الأميركي جورج بوش قد أخذته الغفلة فتجاوز عن هذا الواقع وهو يقرر مساعداته للبنان نقداً وبالديموقراطية وبقرارات دولية جديدة قد تحدث في جسده المنهك جروحاً جديدة فضلاً عن أنها قد تفتح الجروح القديمة، وما أكثرها.