لكأن لبنان هو الذي كان يحتل بجيوشه إسرائيل أو بعضها!
لكأن الطائرات الحربية اللبنانية تخرق الأجواء »الإسرائيلية« على مدار الساعة، وتملك خرائط جاهزة للأهداف الحيوية المحددة للتدمير عند أول إشارة.
… والبوارج اللبنانية تجوب المياه الإقليمية »الإسرائيلية« تطارد زوارق الصيادين وتدمر القرى والمنشآت وتحرق البيوت والشجر ومدارس الأطفال!
فمنذ أن أعلن إيهود باراك »نيته« سحب جيش احتلاله من الأرض اللبنانية، تجنّدت »مراكز القرار« في العالم (الغربي خاصة) ليس فقط للترحيب بهذه النية من قبل أن تصير قراراً، بل لتهديد لبنان المقاوم بالويل والثبور إن هو طلب أو طالب بأن يكون الانسحاب كاملاً لا نقص فيه، وأن يأتي مطابقاً لنص القرار 425 وشاملاً البر والبحر والجو.
أما لما بدأ التنفيذ فقد تهاطلت التهديدات على لبنان ومعه سوريا، وفيها ما يمس الكرامة الوطنية، خصوصاً وقد اتخذت سياقاً مؤداه أن البديل من الاحتلال الإسرائيلي سيكون فرضاً لنوع من الوصاية الدولية على لبنان، مع إرهاب علني مفتوح لسوريا بأن رصاصة واحدة تنطلق قد تعرضها لحرب مدمرة يشارك فيها مباشرة أو بالعقوبات جميع المعنيين بحماية إسرائيل بوصفها عنوان »السلام« و»الاستقرار« في المنطقة.
لكأن جيش الاحتلال قد انسحب من بعض لبنان لتحتل إسرائيل، بحماية »المجتمع الدولي«، هذه المرة، الإرادة الوطنية اللبنانية، ولترتهن معها القرار الوطني السوري في ما يتصل بالأرض السورية المحتلة.
أو لكأن الغرض الأصلي من الانسحاب الإسرائيلي من لبنان هو التمهيد لهجوم »دولي« شامل على سوريا، وانطلاقاً من لبنان.
فمن قبل أن يباشر جيش الاحتلال انسحابه ارتفعت أصوات دول كبرى تطالب بانسحاب سوريا من لبنان، ليس بدافع الحرص على السيادة اللبنانية التي لم تكن تعني أحداً قبل قرار باراك، بل لكي يُحرج لبنان في علاقته المميزة مع سوريا، ولتصوير الوجود السوري »احتلالاً« باقياً، بينما إسرائيل قد التزمت بقرار الشرعية الدولية (!!) فانسحبت.. (مع ما في ذلك من تجاهل بل واستفزاز للشرعية اللبنانية ومواثيقها ومعاهداتها وحقها في القرار المتصل بتحالفاتها وعلاقاتها مع الآخرين).
باختصار، كان الهدف شبه المعلن تحويل لبنان من حليف موضوعي، بالمصلحة قبل الالتزام القومي، لسوريا، إلى منطلق للهجوم المضاد عليها، استكمالاً لخطة التطويق الإسرائيلية لقلعة الصمود العربي الأخيرة.
وباختصار فإن مَن يدبر مثل هذا الهجوم لا يريد الخير للبنان، ولا يعبّر عن حرصه على »سيادته« وصولاً إلى »شرعيته« والإلحاح عليها بضرورة إرسال جيشها لحماية »الحدود الجديدة« التي تراجعت إليها إسرائيل مضطرة، وحتى من قبل أن تستكمل الأمم المتحدة مهمتها البسيطة بتسلم الأرض اللبنانية المحررة من المحتل الإسرائيلي تنفيذا للقرار الدولي.
إن لهجة الإملاء والفرض التي توجَّه إلى لبنان، تارة من واشنطن وتارة من باريس، ودائما من إسرائيل تفضح أن معركة الانسحاب الإسرائيلي من لبنان لما تنتهِ، وأن هذا الانسحاب هو مقدمة لهجوم »دولي« على سوريا عبر لبنان يغطي القرار الإسرائيلي بالانسحاب من عملية التسوية وليس المساعدة على تحرير الأرض اللبنانية المحتلة.
وها هي الأمم المتحدة ذاتها تشهد بأن إسرائيل ترفض الانسحاب من العديد من النقاط في الأرض اللبنانية بذريعة الضرورات الأمنية، فلا يسمع »المجتمع الدولي« ولا يعترض على استمرار الاحتلال ولو لشبر واحد من التراب الوطني، خصوصا وقد اطمأن الآن على سلامة جنود ذلك الاحتلال خلف سياجهم الأمني الجديد… وبعضه داخل الأرض اللبنانية، وبعضه لتأمين الاستمرار في سرقة بعض المياه اللبنانية.
إن موقف الدولة سليم كما عبّر عنه رئيسا الجمهورية والحكومة، وهو قوي بمنطقه وبقانونيته وبالتزامه نص القرار الدولي ومضمونه.
ولنتذكر أن الإلحاح على تنفيذ هذا القرار إنما يجيء الآن خدمة لإسرائيل، إذ لم يعلن أحد في تبرير الاستفاقة المتأخرة لتنفيذه أنه إنما يفعل ذلك من أجل لبنان وحقوقه في أرضه، بل قال الجميع إنهم إنما يخدمون إسرائيل وحكومتها المهزوزة ويدعمون باراك في وجه معارضيه، ويساعدونه على محاولة كسر الموقف الوطني السوري الصلب، ويشجعونه على »رشوة« السلطة الفلسطينية بما يخفف من حرجها أمام شعبها، لكي ترتاح إسرائيل ويتعزز موقعه في الحكم.
والكلام الفرنسي الجديد يجيء ترجمة فورية للتهديد الأميركي، فالتلويح بالامتناع عن زيادة مساهمة فرنسا في قوات الأمم المتحدة هو رفع وتيرة الضغط على لبنان (وسوريا) إلى الحد الأقصى، حتى لو انكشف الغرض وتبدى الهدف جلياً وهو إخضاع لبنان لوصاية دولية، حتى لا نقول لاحتلال دولي يحمي إسرائيل و»يحررها« من ضغط الدم المقاوم ليمكّنها من مواجهة سوريا وقد انكشفت خاصرتها اللبنانية.
.. وبالتأكيد فإن لبنان الذي يعيش اليوم نشوة انتصاره على الاحتلال الإسرائيلي لن يقبل ما كان يرفضه قبل تحرير أرضه، أي فرض وصاية دولية عليه أو احتلال جديد يرتدي جنوده القبعات الزرقاء.