طلال سلمان

أستاذ طلال.. سلامنا إلى “وسام”

أستاذ طلال، هل لي وأنت غافٍ أن أهمس في أذنك، وأحدثك عما عجزتُ عن قوله عند لقائي بك؟

لطالما حيّرتني معادلةُ جريدة “السفير” يا أستاذي. كيف لجريدة نشأت في “عز التعب” عام 1974، أن تُصبح صرحاً مهماً في الإعلام العربي تعلمنا منها الكثير، ونشعرُ بالغربة لغيابها؟

برغم أنني كنتُ محظوظة وكتبت في صحيفة “السفير” لسنوات ثلاث قبل إغلاقها، وقبل ذلك كنت أتعلّمُ الصحافة عبر قراءتها يومياً، لكن الحظ لم يُسعفني لألتقيك قبل أن تغادرك الذاكرة. ففي آذار/مارس 2021 حدّثني الصديق ومدير قسم العربي والدولي حتى يوم إغلاق “السفير”، وسام متَّى، أنّ ذاكرتك تعود بإلحاح إلى الماضي، إلى زمن جمال عبد الناصر. يومها صمتُّ قليلاً، فناداني وسام عبر الهاتف، معتقداً أن الإرسال خان محادثتنا، فأجبته، بأنني ما زلت أسمعه، لكن وَقْعَ الخبر لم يكن سهلاً.

للأمانة كانت لوحة مؤلمة. لقد رحل عنّا جمال عبد الناصر عام 1970، وبعدهُ وُلدت “السفير” بسنوات قليلة، لكنني كنت أشعرُ به حيًّا وأنا أقرأ “السفير” مطلع هذه الألفية. وتخيلتُ كيف أن ذاكرتك، عندما بدأت تخونك أحياناً، سَحَبَتْ من أمامك كل أوراق الحاضر لكنها لم تتمكن مِنْ سَلْبِ أوراق الماضي، ماضينا الجميل؛ وفي صلبه جمال عبد الناصر!

وإنني بصدق أشفق على جيل الصحافيين الذين عرفوا الصحافة اليوم بدون “السفير” اللبنانية!

يوم وصلتُ إلى بيروت لوداع الصديق وسام متّى، في عام 2021، والتقيتُكَ وجهًا لوجه، برغم حزني على ذاكرتك وهي تخونك إلا أنني كنت أفكر بأنني على الأقل حققتُ حلمي وكتبت في صحيفة “السفير” اللبنانية. فهل سيتحقق الحلم وتُنجب بلادنا العربية، أو بيروت العزيزة، في قادم الأيام صحيفة كـ”السفير”؟

صحيفة تمكنت من حفر سنواتها الأولى في ظل انقسام بيروت إلى شرقية وغربية!

في إحدى المقابلات التي أُجْريَتْ معك، تحدثتَ عن تلك المرحلة، قائلًا بأن “السفير” بقيت ممنوعة من دخول المنطقة الشرقية، لمدة 12 سنة، وذلك بسبب الحرب الأهلية. وأضفتَ: “لم يعد هنالك صحافة، كيف حرب أهلية وصحافة”؟

مع ذلك بقيت “السفير” مغروسة في أرض لبنان، وأينعت وكبرت في أقسى الظروف. ألمح نظراتك وأنت تودُّ قول الكثير لكن التعب يمنعك. أعرف يا أستاذي ما تودُّ قوله. تريد أن تقول بأن الصحافي حتى يتمكن من شق طريقه في مهنته لا بد أن يفهم السياسة أكثر من السياسي نفسه. علينا شَقَّ طريقنا بالجسارة، مُسلحين بالمعرفة وفهم السياسة بعمق لنحمي أنفسنا. أفهم ذلك. لكن لطالما حكمني السؤال وأنا أقرأ صفحات من تاريخ الصحافة اللبنانية، وأتعجب لهذه الصحيفة وأتعجب أكثر لقصة إغلاقها التي كانت كما اللغز. ربما قلتَ بعض كلمات في مقابلة لكَ بُعَيْد إغلاق الصحيفة وهي أنك تريد لـ”السفير” أن تُغْلَقَ وهي في القمة.. وفي أَوْجِها.

كانت تلك الكلمات إجابة معقولة. لكن أتعلمُ ماذا فعلتَ بجيلنا يا أستاذي؟ حكمت علينا أن نكون أيتاماً في عُمر مُبْكر، في عُمرٍ بدأنا فيه نُبحر في بحر الإعلام فُرادى، بعد أن اعتدنا السفر عبر صحيفة نؤمن بمبادئها، ومواقفها شبيهةٌ بمواقفنا.

لا تحسب كلامي عتاباً يا أستاذي. برغم كل شيء، يكفي أنك فردت أمامنا تجربة تأسيس صحيفة في ظل ظروف صعبة. صحيفة تحمل قيم عبد الناصر بعد رحيله، وتنادي بقيم العروبة والحرية في زمن الحرب والقتل والعمالة وفي زمن أصبحت العروبة نكتة أو جزءاً من الماضي. كانت تلك التجربة كافية لنا، وإنه عتبُ المحبة يا أستاذي.. عتبُ المحبة لا أكثر ولا أقل.

 أتأملُ نظراتك الآن. أشعرُ أن ذاكرتك تعود إليك برغم المرض. هل حقاً يا أستاذي ونحن نغادر إلى هناك تعود الذاكرة وتَحْتدُّ؟ إنني أراها تلمعُ في عينيك، وأنت تستذكر محاولات الاغتيال التي كادت تأخذك إلى هناك في وقت مُبكر في عام 1984. أقرأ في صفحات عينيك كلمات عدة بأنّ حياتكم في مرات عديدة كانت رهناً لحرية الكلمة والموقف، في زمن الحرب الأهلية اللبنانية البغيضة.

بغض النظر، ستبقى يا أستاذي صورة للجيل الذي عاش الأحلام الكبرى، أحلام قيام مشروع عربي وموحد. ستبقى صورة للجيل الذي عاش مرارة سقوط مشروعنا لا بل حلمنا العربي الكبير.

ولعلك تتهمني بالتفاؤل يا أستاذي. لكن أنا حزينة لأنك لن تعيش معنا في ظل نظام عالمي جديد “متعدد الأقطاب”. قد أكون حالمةً، لكنني بالدرجة الأولى كارهة لأميركا، وأتوق لذلك اليوم الذي سينهض فيه العالم متعدد الأقطاب، ولن تتفرد أميركا بحكم العالم وحدها.

لقد دفع جيلكم من الصحافيين ثمن الحرية بالدم، وما زلتُ أجهل الشكل النهائي لجيلنا في هذه المهنة!

إنني أشعرُ بقيمة المقالات التي قرأتُها في “السفير” وتربيتُ عليها، لأنني أعلم ثمنها جيداً، كما أنه لا يمكنني نسيان أقوال نسمة.

أتعتقدُ أن مُحِبّا لـ”السفير” ينساها! “قال لي (نسمة) الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب”!

ما بالك تبتسم يا أستاذي؟ أحان وقت الرحيلُ.. تُلملمُ مقتنياتك من هنا سريعاً بأنظارك وتترقبُ “هناك” باستعجال؟ هل هذا لأنك ستلتقي “هنالك” بجميع من سبقوك، ولا سيما رفاقك من الصحافيين المناضلين والمؤمنين بقضايا العدالة والحرية والإنسانية؟

رحلة خالدة يا أستاذي إلى “هناك”. سلّم على إبن “السفير” وسام متَّى.

نشرت في موقع 180 بوست

Exit mobile version